مفكرة الدعاة
26 Oct 2005, 08:42 PM
شخصيات دعوية
الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي
رحمه الله
بداية معرفتي بعلامة القصيم الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي كانت من خلال ما كنا نقرأ من مؤلفاته، التي تصلنا إلى الزبير بواسطة المشايخ وطلبة العلم، فكان علماء الزبير يتناولونها بالبحث والدراسة والمناظرة، وبخاصة أن جميع علماء الزبير هم من الحنابلة باستثناء الشيخ الرابح الذي كان مالكي المذهب، وكانت "مدرسة الدويس الدينية"، ومجالس العلم لدى المشايخ مثل مجلس العلامة إبراهيم بن ناصر الأحمد مدير مدارس النجاة الأهلية، والشيخ محمد بن عبدالرحمن السند، والشيخ إبراهيم بن محمد المبيض وغيرهم تضم طلبة العلم والراغبين في الاستفادة والتفقه في الدين.
وكان للشيخ العلامة الموريتاني محمد الشنقيطي مؤسس مدرسة النجاة في الزبير، دوره في التعريف بتلامذته الذين تلقوا العلم على يديه، ومنهم الشيخ السعدي الذي ظل يحفظ الفضل لأهله ويذكر بالخير شيخه الشنقيطي، ويرحب بتلامذته من الزبير وغيرها.
لقد كان الشيخ السعدي شغوفا بطلب العلم، يحب العلماء ومجالستهم والاستفادة منهم، كما أنه يحرص على تعليم الناس أمور دينهم وبيان حكم الإسلام فيما يعرض لهم في واقع حياتهم ومجتمعهم، ويهتم ببعض طلبة العلم ويوليهم عنايته الخاصة، إذ توسّم فيهم النباهة والجد والاجتهاد في تحصيل الفقه بأدلته من الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، وأصبح له تلامذة كثيرون قاربوا المائة وقد ذكر الأخ العلامة والمؤرخ المحقق الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام في كتابه القيم: "علماء نجد خلال ستة قرون" طائفة من أولئك التلاميذ وعددهم اثنان وأربعون، منهم على سبيل المثال: سليمان بن إبراهيم البسام، محمد بن عبدالعزيز المطوع، عبدالله بن عبدالرحمن البسام، علي بن محمد الزامل، عبدالعزيز بن محمد السلمان، عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل، محمد بن صالح بن عثيمين، عبدالله المحمد العوهلي، عبدالله بن حسن آل بريكان وغيرهم، ولعل من أبرز هؤلاء الطلبة المعاصرين الذين سلكوا مسلك الشيخ السعدي واتبعوا منهجه هو الأخ الكريم الشيخ محمد بن صالح العثيمين عضو هيئة كبار العلماء، والأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية "فرع القصيم" والذي خلف شيخه السعدي، في إمامة الجامع الكبير بعنيزة وفي التدريس والوعظ والخطابة، ولقد حذا الشيخ ابن عثيمين حذو أستاذه الشيخ السعدي في الإفتاء، حيث يتبع قوة الدليل وصحته دون الالتزام الحرفي بالفقه المذهبي، لأن الشأن في الفقهاء المجتهدين البحث عن قوة الدليل وحجيته وإصدار الأحكام والفتاوى على ضوء ذلك.
إن أستاذنا الشيخ السعدي كان منقطعا للعلم، مكبا على القراءة المتدبّرة التي تنظر في الأحكام وأدلتها، وتقارن بين الآراء والاجتهادات الفقهية المذهبية وتختار ما قام الدليل على صحته وسلم من المآخذ والمطاعن بغض النظر عن قائله، فكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم .
والعلامة السعدي متفتِّح الذهن واسع الاطلاع، يملك أدوات الاجتهاد، ووسائل الترجيح، ويستوعب قضايا العصر، ويعيش مشكلات الناس، ويبيِّن راجح الأقوال والأعمال من مرجوحها، وفاضلها من مفضولها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ومسنونها من مبتدعها، لأنه ـ بفضل الله ـ عميق الفهم في الكتاب والسنة، وصاحب ملكة في فهم لغة العرب وتذوقها، متمرس بأقوال الفقهاء، يعرف مقاصد الأحكام، وطرائق الاستنباط ومواضع الإجماع، ومواقع الخلاف، فكانت معرفته تلك خير معوان له في محبة الناس، وإقبالهم عليه، وتلقي العلم منه، والتتلمذ على يديه، والرجوع إليه في استفتاءاتهم وأسئلتهم التي يريدون معرفة حكم الشرع فيها.
يقول ـ زميله وتلميذه في الوقت نفسه الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز بن زامل، في قصيدة نظمها في مدح الشيخ السعدي منها:
دعْ عنكَ ذكرَ الهوى' واذكرْ أخا ثِقَةٍ
يدعو إلى' العلمِ لم يقعُدْ به الضجرُ
شمسُ العلومِ ومن بالفضلِ متصفٌ
مفتاح خير إلى الطاعات مبتكرُ
بحرٌ من العلمِ نال العلمَ في صغرٍ
مع التقى حيث ذاك الفوزُ والظفرُ
نال العلا يافعاً تعلو مراتبهُ
ففضلهُ عند كل الناس مشتهرُ
بالفقه في الدين نال الخير أجمعه
والفقه في الدين غصنٌ كله ثمرُ
وحين عزمنا الحج سنة 1375هـ مع مدرسي مدرسة النجاة الأهلية بالزبير، حرصتُ كل الحرص على زيارة الشيخ السعدي في عنيزة، حيث استقبلنا في بيته وبالغ في إكرامنا والاحتفاء بنا، باعتبارنا أساتذة المدرسة التي أسسها شيخه الشنقيطي بالزبير، ورغم قصر المدة فقد استفدنا من علمه وأدبه وخلقه وكرمه وبشاشته الشيء الكثير، وترك في نفوسنا صورة مشرقة عن العالم الزاهد المتواضع البشوش الذي تُنسيك سيرته وأخلاقه سيرة النسب.
ولقد لاحظنا أن الشيخ السعدي على اطلاع واسع بأحوال العالم العربي والإسلامي وما يجري من صراع بين الحق والباطل، وبين الدعاة والبغاة، كما أنه مدرك تمام الإدراك للمؤامرات الكبرى التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين، والتي يتولى كبرها المفسدون في الأرض، حيث يحاربون عقيدة الإسلام وشريعته، وأخلاقه وشعائره، وعلماءه ودعاته، وقد أثنى الثناء الحسن على الدعاة إلى الله الذين يتصدّون للطواغيت ويصبرون على الأذى' في سبيل الله.
إن العلامة السعدي عالم متبحِّر ألَّف في معظم أبواب العلم، من التفسير وعلومه والحديث وشروحه، والفقه وأصوله، والتوحيد ومقاصده، وكانت معظم كتبه تصل إلى طلبة العلم في كل مكان وبالمجان حيث يتولى أبناؤه الأبرار وتلامذته الأخيار، نشرها وإشاعتها بين الناس احتساباً لوجه الله تعالى، وقد جاوزت مؤلفاته الأربعين كتاباً ومن أهمها:
ـ تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن.
ـ القواعد الحسان في تفسير القرآن.
ـ طريق الوصول إلى العلم المأمول من الأصول.
ـ الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين.
ـ القواعد والأصول الجامعة في أصول الفقه.
ـ التوضيح والبيان لشجرة الإيمان.
ـ الدرة البهية شرح العقيدة التائية لابن تيمية.
ـ الخطب العصرية المنبرية.
ـ الوسائل المفيدة للحياة السعدية.
ـ توضيح الكافية الشافية لابن القيم.
ـ إرشاد أولي البصائر والألباب لمعرفة الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب.
ـ الرياض الناضرة.
ـ القول السديد في مقاصد التوحيد.
ـ الحق الواضح المبين في شرح توصية الأنبياء والمرسلين.
ـ تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله.
ـ رساله في القواعد الفقهية.
ـ المختارات الجلية في المسائل الفقهية.
ـ المناظرات الفقهية.
ـ الفتاوى السعدية.
ـ بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار.
ـ منظومة في القواعد الفقهية.
ـ منظومة في أحكام الفقه.
ـ منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة...إلخ
والعلامة الشيخ السعدي هو أول من أنشأ مكتبة في بلدة "عنيزة" 1358هـ.
ولد الشيخ عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله السعدي التميمي سنة 1307هـ ـ 1890م في بلده عنيزة من بلدان القصيم، توفيت أمه وله أربع سنوات، ثم توفي والده وله سبع سنوات، فتربى يتيماً، حيث كفلته زوجة أبيه، ولما شبّ صار في بيت أخيه الأكبر حمد بن ناصر السعدي، حيث نشأ نشأة صالحة، وحفظ القرآن الكريم وعمره إحدى عشرة سنة، وأخذ العلم عن علماء البلدة، ومن قدم إليها من العلماء أمثال العلامة الموريتاني الكبير الشيخ محمد الشنقيطي، كما أخذ العلم من مشايخه في عنيزة كالشيخ محمد بن عبدالكريم الشبل، والشيخ عبدالله بن عائض، والشيخ إبراهيم بن جاسر، والشيخ صعب التويجري، والشيخ علي بن محمد السناني، والشيخ صالح بن عثمان القاضي وغيرهم من العلماء الأفاضل، وقد تولى التدريس وعمره ثلاث وعشرون سنة.
يقول العلامة الفقيه والمؤرخ المحقق الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام في كتابه القيم "علماء نجد خلال ستة قرون" عن شيخه السعدي: "ولما تفتحت أمامه آفاق العلم، خرج عن مألوف بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط، إلى الاطلاع على كتب التفسير والحديث والتوحيد وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، حيث فتقت ذهنه ووسعت مداركه فخرج من طور التقليد إلى طور الاجتهاد المقيد، فصار يرجِّح من الأقوال ما رجّحه الدليل وصدّقه التعليل..." انتهى
إن شخصية أستاذنا السعدي كما عرفته عن قرب، تجمع وقار العلماء وبساطتهم، وغزارة علمهم وتواضعهم، وشجاعتهم وحكمتهم، وصبرهم ورباطة جأشهم والحلم وسعة الصدر والكرم وحسن الخلق.
لقد كان ـ يرحمه الله ـ من الخلف العدول الذين ينفون عن علم النبوة تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، لأن القرآن الكريم والسنَّة المطهرة مرجعه في معرفة أحكام الإسلام، حيث يفهم القرآن طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السنَّة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات.
يقول الإمام حسن البنا في الأصول العشرين: "وكل بدعة في دين الله لا أصل لها استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه، ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شرٌّ منها، وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نُهينا عنه شرعاً، وزيارة القبور سنَّة مشروعة بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين أياً كانوا، ونداؤهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم، عن قرب أو بُعدٍ والنذر لهم وتشييد القبور وسترها وإضاءتها والتمسح بها، والحلف بغير الله، وما يلحق بذلك من المبتدعات، كبائر تجب محاربتها ولا نتأوّل لهذه الأعمال سداً للذريعة" انتهى.
وقد توفَّى' اللهُ الشيخَ السعدي سنة 1376هـ تاركاً خلفه ثلاثة من الأبناء هم: عبدالله ومحمد وأحمد، وكانت وفاته بعد زيارتنا له بعام واحد فكان هذا آخر العهد به، وقد رثاه د. عبدالله العثيمين بقصيدة طويلة نقتطف منها بعض الأبيات حيث يقول:
مُهجٌ تذوب وأنفسٌ تتحسرُ
ولظى' على كل القلوب تسعَّرُ
كيف التحدث عن مصابٍ فادحٍ
أكبادنا من هوله تتفطّرُ
يا راحلاً ريعَ الثقاتُ لفقده
وبكى' تغيبه الحمى والمنبرُ
ما مات مَـنْ نشر الفضيلة والتقى'
وأقام صرحاً أُسه لا يكسرُ
ما مات من غمر الأنام بعلمهِ
الكتبُ تشهدُ والصحائفُ تخبرُ
يا ناصرَ الإسلامِ ضدَ خصومه
لك في الجهاد مواقف لا تحصرُ
قد كنتَ للدين الحنيف معضداً
وبشرعة الهادي القويم تعبرُ
يا زاهداً عرف الحياة فما هوى'
في المغريات ولا سباه المظهرُ
نم في جنان الخلد يا علم التقى'
وانعم بظلٍ وارفٍ لا يخسرُ
نسأل الله المولى القدير أن يتقبَّل شيخنا السعدي في زمرة العلماء العاملين، وأن يحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يبارك في عمر من بقي من تلامذته أمثال العلامة المؤرخ عبدالله بن عبدالرحمن، والفقيه المجتهد محمد ابن صالح العثيمين وينفع بهم الإسلام والمسلمين.
المصدر (http://www.aldoah.com/modules.php?name=News&file=article&sid=274)
الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي
رحمه الله
بداية معرفتي بعلامة القصيم الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي كانت من خلال ما كنا نقرأ من مؤلفاته، التي تصلنا إلى الزبير بواسطة المشايخ وطلبة العلم، فكان علماء الزبير يتناولونها بالبحث والدراسة والمناظرة، وبخاصة أن جميع علماء الزبير هم من الحنابلة باستثناء الشيخ الرابح الذي كان مالكي المذهب، وكانت "مدرسة الدويس الدينية"، ومجالس العلم لدى المشايخ مثل مجلس العلامة إبراهيم بن ناصر الأحمد مدير مدارس النجاة الأهلية، والشيخ محمد بن عبدالرحمن السند، والشيخ إبراهيم بن محمد المبيض وغيرهم تضم طلبة العلم والراغبين في الاستفادة والتفقه في الدين.
وكان للشيخ العلامة الموريتاني محمد الشنقيطي مؤسس مدرسة النجاة في الزبير، دوره في التعريف بتلامذته الذين تلقوا العلم على يديه، ومنهم الشيخ السعدي الذي ظل يحفظ الفضل لأهله ويذكر بالخير شيخه الشنقيطي، ويرحب بتلامذته من الزبير وغيرها.
لقد كان الشيخ السعدي شغوفا بطلب العلم، يحب العلماء ومجالستهم والاستفادة منهم، كما أنه يحرص على تعليم الناس أمور دينهم وبيان حكم الإسلام فيما يعرض لهم في واقع حياتهم ومجتمعهم، ويهتم ببعض طلبة العلم ويوليهم عنايته الخاصة، إذ توسّم فيهم النباهة والجد والاجتهاد في تحصيل الفقه بأدلته من الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، وأصبح له تلامذة كثيرون قاربوا المائة وقد ذكر الأخ العلامة والمؤرخ المحقق الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام في كتابه القيم: "علماء نجد خلال ستة قرون" طائفة من أولئك التلاميذ وعددهم اثنان وأربعون، منهم على سبيل المثال: سليمان بن إبراهيم البسام، محمد بن عبدالعزيز المطوع، عبدالله بن عبدالرحمن البسام، علي بن محمد الزامل، عبدالعزيز بن محمد السلمان، عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل، محمد بن صالح بن عثيمين، عبدالله المحمد العوهلي، عبدالله بن حسن آل بريكان وغيرهم، ولعل من أبرز هؤلاء الطلبة المعاصرين الذين سلكوا مسلك الشيخ السعدي واتبعوا منهجه هو الأخ الكريم الشيخ محمد بن صالح العثيمين عضو هيئة كبار العلماء، والأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية "فرع القصيم" والذي خلف شيخه السعدي، في إمامة الجامع الكبير بعنيزة وفي التدريس والوعظ والخطابة، ولقد حذا الشيخ ابن عثيمين حذو أستاذه الشيخ السعدي في الإفتاء، حيث يتبع قوة الدليل وصحته دون الالتزام الحرفي بالفقه المذهبي، لأن الشأن في الفقهاء المجتهدين البحث عن قوة الدليل وحجيته وإصدار الأحكام والفتاوى على ضوء ذلك.
إن أستاذنا الشيخ السعدي كان منقطعا للعلم، مكبا على القراءة المتدبّرة التي تنظر في الأحكام وأدلتها، وتقارن بين الآراء والاجتهادات الفقهية المذهبية وتختار ما قام الدليل على صحته وسلم من المآخذ والمطاعن بغض النظر عن قائله، فكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم .
والعلامة السعدي متفتِّح الذهن واسع الاطلاع، يملك أدوات الاجتهاد، ووسائل الترجيح، ويستوعب قضايا العصر، ويعيش مشكلات الناس، ويبيِّن راجح الأقوال والأعمال من مرجوحها، وفاضلها من مفضولها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ومسنونها من مبتدعها، لأنه ـ بفضل الله ـ عميق الفهم في الكتاب والسنة، وصاحب ملكة في فهم لغة العرب وتذوقها، متمرس بأقوال الفقهاء، يعرف مقاصد الأحكام، وطرائق الاستنباط ومواضع الإجماع، ومواقع الخلاف، فكانت معرفته تلك خير معوان له في محبة الناس، وإقبالهم عليه، وتلقي العلم منه، والتتلمذ على يديه، والرجوع إليه في استفتاءاتهم وأسئلتهم التي يريدون معرفة حكم الشرع فيها.
يقول ـ زميله وتلميذه في الوقت نفسه الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز بن زامل، في قصيدة نظمها في مدح الشيخ السعدي منها:
دعْ عنكَ ذكرَ الهوى' واذكرْ أخا ثِقَةٍ
يدعو إلى' العلمِ لم يقعُدْ به الضجرُ
شمسُ العلومِ ومن بالفضلِ متصفٌ
مفتاح خير إلى الطاعات مبتكرُ
بحرٌ من العلمِ نال العلمَ في صغرٍ
مع التقى حيث ذاك الفوزُ والظفرُ
نال العلا يافعاً تعلو مراتبهُ
ففضلهُ عند كل الناس مشتهرُ
بالفقه في الدين نال الخير أجمعه
والفقه في الدين غصنٌ كله ثمرُ
وحين عزمنا الحج سنة 1375هـ مع مدرسي مدرسة النجاة الأهلية بالزبير، حرصتُ كل الحرص على زيارة الشيخ السعدي في عنيزة، حيث استقبلنا في بيته وبالغ في إكرامنا والاحتفاء بنا، باعتبارنا أساتذة المدرسة التي أسسها شيخه الشنقيطي بالزبير، ورغم قصر المدة فقد استفدنا من علمه وأدبه وخلقه وكرمه وبشاشته الشيء الكثير، وترك في نفوسنا صورة مشرقة عن العالم الزاهد المتواضع البشوش الذي تُنسيك سيرته وأخلاقه سيرة النسب.
ولقد لاحظنا أن الشيخ السعدي على اطلاع واسع بأحوال العالم العربي والإسلامي وما يجري من صراع بين الحق والباطل، وبين الدعاة والبغاة، كما أنه مدرك تمام الإدراك للمؤامرات الكبرى التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين، والتي يتولى كبرها المفسدون في الأرض، حيث يحاربون عقيدة الإسلام وشريعته، وأخلاقه وشعائره، وعلماءه ودعاته، وقد أثنى الثناء الحسن على الدعاة إلى الله الذين يتصدّون للطواغيت ويصبرون على الأذى' في سبيل الله.
إن العلامة السعدي عالم متبحِّر ألَّف في معظم أبواب العلم، من التفسير وعلومه والحديث وشروحه، والفقه وأصوله، والتوحيد ومقاصده، وكانت معظم كتبه تصل إلى طلبة العلم في كل مكان وبالمجان حيث يتولى أبناؤه الأبرار وتلامذته الأخيار، نشرها وإشاعتها بين الناس احتساباً لوجه الله تعالى، وقد جاوزت مؤلفاته الأربعين كتاباً ومن أهمها:
ـ تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن.
ـ القواعد الحسان في تفسير القرآن.
ـ طريق الوصول إلى العلم المأمول من الأصول.
ـ الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين.
ـ القواعد والأصول الجامعة في أصول الفقه.
ـ التوضيح والبيان لشجرة الإيمان.
ـ الدرة البهية شرح العقيدة التائية لابن تيمية.
ـ الخطب العصرية المنبرية.
ـ الوسائل المفيدة للحياة السعدية.
ـ توضيح الكافية الشافية لابن القيم.
ـ إرشاد أولي البصائر والألباب لمعرفة الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب.
ـ الرياض الناضرة.
ـ القول السديد في مقاصد التوحيد.
ـ الحق الواضح المبين في شرح توصية الأنبياء والمرسلين.
ـ تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله.
ـ رساله في القواعد الفقهية.
ـ المختارات الجلية في المسائل الفقهية.
ـ المناظرات الفقهية.
ـ الفتاوى السعدية.
ـ بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار.
ـ منظومة في القواعد الفقهية.
ـ منظومة في أحكام الفقه.
ـ منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة...إلخ
والعلامة الشيخ السعدي هو أول من أنشأ مكتبة في بلدة "عنيزة" 1358هـ.
ولد الشيخ عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله السعدي التميمي سنة 1307هـ ـ 1890م في بلده عنيزة من بلدان القصيم، توفيت أمه وله أربع سنوات، ثم توفي والده وله سبع سنوات، فتربى يتيماً، حيث كفلته زوجة أبيه، ولما شبّ صار في بيت أخيه الأكبر حمد بن ناصر السعدي، حيث نشأ نشأة صالحة، وحفظ القرآن الكريم وعمره إحدى عشرة سنة، وأخذ العلم عن علماء البلدة، ومن قدم إليها من العلماء أمثال العلامة الموريتاني الكبير الشيخ محمد الشنقيطي، كما أخذ العلم من مشايخه في عنيزة كالشيخ محمد بن عبدالكريم الشبل، والشيخ عبدالله بن عائض، والشيخ إبراهيم بن جاسر، والشيخ صعب التويجري، والشيخ علي بن محمد السناني، والشيخ صالح بن عثمان القاضي وغيرهم من العلماء الأفاضل، وقد تولى التدريس وعمره ثلاث وعشرون سنة.
يقول العلامة الفقيه والمؤرخ المحقق الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام في كتابه القيم "علماء نجد خلال ستة قرون" عن شيخه السعدي: "ولما تفتحت أمامه آفاق العلم، خرج عن مألوف بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط، إلى الاطلاع على كتب التفسير والحديث والتوحيد وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، حيث فتقت ذهنه ووسعت مداركه فخرج من طور التقليد إلى طور الاجتهاد المقيد، فصار يرجِّح من الأقوال ما رجّحه الدليل وصدّقه التعليل..." انتهى
إن شخصية أستاذنا السعدي كما عرفته عن قرب، تجمع وقار العلماء وبساطتهم، وغزارة علمهم وتواضعهم، وشجاعتهم وحكمتهم، وصبرهم ورباطة جأشهم والحلم وسعة الصدر والكرم وحسن الخلق.
لقد كان ـ يرحمه الله ـ من الخلف العدول الذين ينفون عن علم النبوة تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، لأن القرآن الكريم والسنَّة المطهرة مرجعه في معرفة أحكام الإسلام، حيث يفهم القرآن طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السنَّة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات.
يقول الإمام حسن البنا في الأصول العشرين: "وكل بدعة في دين الله لا أصل لها استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه، ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شرٌّ منها، وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نُهينا عنه شرعاً، وزيارة القبور سنَّة مشروعة بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين أياً كانوا، ونداؤهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم، عن قرب أو بُعدٍ والنذر لهم وتشييد القبور وسترها وإضاءتها والتمسح بها، والحلف بغير الله، وما يلحق بذلك من المبتدعات، كبائر تجب محاربتها ولا نتأوّل لهذه الأعمال سداً للذريعة" انتهى.
وقد توفَّى' اللهُ الشيخَ السعدي سنة 1376هـ تاركاً خلفه ثلاثة من الأبناء هم: عبدالله ومحمد وأحمد، وكانت وفاته بعد زيارتنا له بعام واحد فكان هذا آخر العهد به، وقد رثاه د. عبدالله العثيمين بقصيدة طويلة نقتطف منها بعض الأبيات حيث يقول:
مُهجٌ تذوب وأنفسٌ تتحسرُ
ولظى' على كل القلوب تسعَّرُ
كيف التحدث عن مصابٍ فادحٍ
أكبادنا من هوله تتفطّرُ
يا راحلاً ريعَ الثقاتُ لفقده
وبكى' تغيبه الحمى والمنبرُ
ما مات مَـنْ نشر الفضيلة والتقى'
وأقام صرحاً أُسه لا يكسرُ
ما مات من غمر الأنام بعلمهِ
الكتبُ تشهدُ والصحائفُ تخبرُ
يا ناصرَ الإسلامِ ضدَ خصومه
لك في الجهاد مواقف لا تحصرُ
قد كنتَ للدين الحنيف معضداً
وبشرعة الهادي القويم تعبرُ
يا زاهداً عرف الحياة فما هوى'
في المغريات ولا سباه المظهرُ
نم في جنان الخلد يا علم التقى'
وانعم بظلٍ وارفٍ لا يخسرُ
نسأل الله المولى القدير أن يتقبَّل شيخنا السعدي في زمرة العلماء العاملين، وأن يحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يبارك في عمر من بقي من تلامذته أمثال العلامة المؤرخ عبدالله بن عبدالرحمن، والفقيه المجتهد محمد ابن صالح العثيمين وينفع بهم الإسلام والمسلمين.
المصدر (http://www.aldoah.com/modules.php?name=News&file=article&sid=274)