محب الإسلام
10 Oct 2005, 04:13 PM
الشيخ صالح آل الشيخ
كيف تدعو إلى الله؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلواتُ الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، وعلى أزواج نبينا محمد وعلى صحابته، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فموضوع هذا الدرس كيف تدعو إلى الله؟
وسبب اختيار هذا الموضوع ما هو معلوم من أن الدعوة إلى الله جل وعلا مهمّة عظيمة، وأن كلَّ من رغِب في الخير واستقام على الإسلام فإنه يروم أن يهديَ غيره؛ لأنّ في ذلك الفضل الجزيل، وفي ذلك العائدة العظمى عليه وعلى غيره, وأعظم عائدةٍ على المستقيم على الصراط أن يكون له مثل أجور من هداهم إلى الله جل وعلا, فقد ثبت في الصحيح أن النبي r أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا يَنْقص ذلك من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه لا ينقص من أوزارهم شيء» وقد قال عليه الصلاة والسلام لعلي حين بعثه إلى خيبر «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» يعني من الإبل الحمراء الغالية عند أهلها، فإن الدعوة إلى الله جل وعلا؛ وأن يهدي الله على يديك واحدا من الناس رجلا أو امرأة، صغيرا أو كبيرا فإن في ذلك الفضل العظيم عليك؛ ولأن تعطى كذا وكذا من الأموال الجزيلة في هذا الزمن ليس بأفضل لك من أن يُهدى على يديك رجل واحد، لكن كما نرى أن كثيرين يريدون أن يدعوا, كثيرين يريدون أن يهدوا الناس، لكن سبيلُ ذلك لا تكون ماثلةً أمام أعينهم، ربما جربوا تَجْرُبات ليست بالمستقيمة، ربما حاولوا محاولات لم تكن مؤصلة لم تكن عن تجربة، لم تكن عن استرشاد بمن جرّب فنجح، فلهذا تكون خطاهم متعثّرة، وهؤلاء ربما فعلوا أشياء ودعوا، وكان في دعوتهم من الخطأ ما حجز آخرين عن قبول الحق والهدى؛ لأن خطأ الداعية ليس كخطأ غيره، ولهذا أمر الله جل وعلا الأنبياء جميعا بالصبر وأن لا يستخفَّهم الذين لا يؤمنون، كما قال جل وعلا﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾[الروم:60]، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾[الأحقاف:35]، فإن الدعوة أساسُها الحكمة، أساسها الأناة، أساسها أن يكون العبد سائرا على ما أمر الله جل وعلا به، وما نهى، فيما يأتي ويذر في أمر الناس، وإذا كان كذلك فإنّ دعوته يُرجى أن تُؤتي ثمارها ولو بعد حين.
الدعوة إلى الله جل وعلا مطلبٌ للجميع؛ مطلب من حيث العمل، ومطلب من حيث الغاية؛ لأن الغاية؛ غاية المجتمع المسلم أن يكون مستسلما لله جل وعلا، منقادا له في الظاهر ومنقادا له في الباطن أيضا, وهذه الغاية ينبغي للأفراد أن يسعوا في تحقيقها، وللمجتمعات أن تسعى في تحقيقها، وكذلك لدولة الإسلام أن تسعى إلى تحقيقها، فإنّ تعبيد الناس لله جل وعلا هو الغاية من خلقِهم، فإذا أدرك الناس ذلك فاستقاموا عليه، فذلك فضل، و إلا فإن الناس يدعوا بعضهم بعضا ويُرشد بعضهم بعضا، لهذا كانت هذه المحاضرة أو كان هذا الدرس؛ كيف تدعو إلى الله جل وعلا؟ كان مُهِمًّا في إعطاء بعض النقاط، وليس بشمول ما يتصل بهذه المسألة؛ لأنها طويلة الذيول، لكن بما يفتح آفاقا لدى الذي يحب أن يكون هاديا للناس سائرا على الحق على صراط سوي.
المتأمل اليوم في أحوال الناس يجد أن الدعوة على أنواع:
>منها دعوة فردية ونعني بالدعوة الفردية أن يكون الفرد يدعو فردا آخر، أو أن يكون أفرادا يدعون أفرادا.
>ومنها دعوة جماعية، والدعوة الجماعية أيضا من حيث الواقع منقسمة إلى قسمين:
• منهم من يدعو جماعيا على أساس التعاون على البر والتقوى؛ ويتعاونون ويجتمعون على أن يهدوا الناس، يُرتّبون أمرهم؛ كيف دعوة هذا ومصداقية في نجاح التأثير عليه أو التأثير على هذه الأسرة أو نحو ذلك..
• وهناك قسم آخر من الدعوة الجماعية وهي الدعوة الجماعية المنظّمة التي تكون عن تنظيم بتجسيد المهمات ويكون هناك قيادة وهناك فروع لهذا التنظيم.
وهذه التقسيمات من جهة الوجود، أما من حيث مشروعية كل قسم وتفاصيل الكلام عليه فسنعرض له إن شاء الله تعالى في مكان آخر من هذه الدروس.
الذي يهمُّنا من هذا التقسيم في هذا الدرس هو القسم الأول وهو الدعوة الفردية التي يمكن أن يعمل بها المرء بمفرده, كيف يمكن أن تكون أنت داعية إلى الله جل وعلا؟ كيف يمكن أن تهدي الناس؟ كيف تمشي في هذا الطريق دون عقبات ودون أن تتردد فيه وتؤثر على الناس ويُقبَل منك ذلك؟
إذا تأمّلت الواقع الذي تعيشه هذه البلاد، بل وواقع الأمة الإسلامية بعامة وجدتَ أن الخير ينتشر يوما بعد يوم من جهة اهتداء الناس إلى الإسلام ومحبتهم إلى الالتزام به، ورغبتهم في تعاليمه، وإقبالهم على الخير، لا شك أن الناس يزدادون إقبالا يوما بعد يوم.
فإلى أي شيء يُعزى هذا الانتشار العظيم؟
هل هو نتيجة للدعوة الجماعية التنظيمية؟ لاشك فإن الذي يقول إنه نتيجة لذلك أنه مغالي وليس له في الواقع نصيب.
هل هو نتيجة لدعوة جماعية فيها تعاون على البر والتقوى؟ أيضا يعني دعوة جماعية مرتّبة ليس فيها تنظيم وقيادة إلى غير ذلك، يعني ليس لها صفة الحزبية أيضا هذا فيه بعد.
ولكن الواقع أن أكثر الأسباب ظهورًا إلى انتشار الإسلام، وفي زيادة الصحوة، وإقبال الناس نساء ورجالا على الخير وعلى الهدى، هو نشاط الأفراد؛ هذا ينشط في عمله، وهذا ينشط في أسرته، وهذا ينشط في حيِّه، وهذا الإمام ينشط مع جماعته، إلى آخره، فأكثرها نشاطات فردية، وهذه النشاطات الفردية لا شك تستفيد مما يجري حولها بأنواع من الاستفادة منها ما هو جيد ومنها ما هو ليس بجيد، منها ما هو منضبط ومنها ما ليس بمنضبط، إلى آخر ذلك..
المهم أن سبب انتشار الخير كان هو الدعوة الفردية؛ دعوة الناس بعضهم بعضا بدون مؤثرات عظيمة؛ مؤثرات جماعية، وإنما هذا يُرغّب في الخير فأثّر في أسرته، هذا يُرغّب في الخير فأثَّر في عمله، تجد أنه قرأ كلمة طيبة فنشرها إلى آخر ذلك..
فهذا الترتيب وهو أن من أكبر أسباب انتشار الصحوة وزيادة الخير هو جهد الأفراد، هو الذي نريد أن يعلُق بالأذهان حتى لا يظن الظان أنه لا يمكن أن يدعو حتى يكون معه أناس، وحتى يكون معه من يساعده، وحتى يكون هناك من يرتبه، وهذا أمر لا بد منه، لأنه إذا شعر بأنه يمكن أن يعمل بمفرده، يمكن أن يدعو بمفرده، لاشك أنه إذا كان هناك معه غيره يدعون بما فيه تعاون على البر والتقوى، تُؤتِي الدعوة ثمرات أكثر في قطاعات كبيرة لكن إذا كان يشعر أنه إذا عمل بمفرده فإنه سينتج ولا يحتاج إلى غيره في أمر الدعوة فإنه يشجّعه ذلك، وهذا الذي ينبغي أن يقرّ في الأذهان بادئ ذي بدء قبل الدّخول في هذا الموضوع الذي نعرض أطرافا منه.
إذن فمهمتك أيها المسلم هي أن تحمل أولا همَّ هذه الدعوة، أن تحمل أولا همَّ مصلحتك؛ لأنك إذا دعوت فإنك لا تدعو لأجل أن تكون المصلحة لغيرك، أن تدعو لأجل أن تكون المصلحة لك، لأنك إذا دعوت أحدا إلى الله جل وعلا فاستقام وعمل شيئا من الخير فلك مثل أجره، فتزداد حسناتك بسبب هداية الناس إلى الحق والهدى، هذا الترغيب الذي يجعلك تقدم، لابد له من ضوابط، لابد أن تعرف ما فيه من محاذير، لابد أن تعرف ما له من أحكام، وهذا هو الذي سنطرقه إن شاء الله فيما نستقبل من الكلام.
الداعية المفرد الذي يدعو بنفسه أولا لابد أن يكون نبيها ذكيا من جهة حال المدعوين بل أقول قبل ذلك.
Dأولا: لابد أن يكون في دعوته متجردا مخلصا لله جل وعلا، يعني له رغب في قلبه أن يجعل الناس مطيعين لله جل وعلا، ليس له رغب في الدنيا، ليس له رغب في الجاه، ليس له رغب في السمعة، ليس له رغب في السيطرة، ليس له رغب في أن يكون متعاليا على الناس، مما هي من أنواع الأخلاقيات التي قد تعرض على بعض القلوب التي تدعو إلى الله.
المهم الأول أن يكون مخلصا لله متذللا مطيعا، ترغب أن تهدي الخلق إلى الله جل وعلا، لا أن تهديهم إلى غيره، وهذا الشرط جاء في قول الله جل وعلا﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف:108]، في هذه الآية أمر الله جل وعلا نبيَّه أن يقول هذه سبيلي؛ قل يا محمد للناس جميعا وللكفار بوجه الخصوص (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ), قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مسائل كتاب التوحيد في قوله (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) التنبيه على الإخلاص، وهذا أمر مهمّ مطلوب دائما أن يكون في قلبك العمل لله جل وعلا، ثم قال على بصيرة والبصيرة للقلب كالبصر للعين، البصيرة هي العلم الواضح الذي يكون معه صورة الأشياء العلمية، صورة الأشياء العملية أمام الخلق في وضوح، كما تكون الأشياء المبصَرة بالعين أمام العين في وضوح إذا توجه النظر إليها, (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) فذكر شرط الإخلاص وذكر شرط البصيرة والعلم مما سيأتي بيانه. هذا الشرط معروف ولابد أن يتوطَّن قلبك أن تكون مخلصا لستَ مسيطرا، لستَ طالبا ذا سمعة، و هذا من الأخلاقيات المهمة، والدعائم المهمة للداعية، لما؟ لأن بعض الناس قد يأتي يدعو يرى الذي أمامه عنده مخالفات، عنده بلاء عظيم، حتى ولو كان الشرك والبدعة أو ما هو أقل من ذلك من كبائر الذنوب، أو تفريط في الفرائض أو الصغائر، قد ينظر إلى أنه متعالي عليه، فيأتي فيدعو من جهة التعالي، من جهة الاستعلاء، فيكون أمره ونهيه ليس صادرا من قلب مخلص تمام الإخلاص، وإنما فيه شيء من الاستعلاء وهذا يفسد القبول.
فإذن عندنا الأمر الأول المهم هو أن تكون مخلصا وفهمتَ معنى الإخلاص:
• أولا: أن لا تدعو إلى غير الله يعني لا تحبب الناس في غير الله، وإنما تريد أن يطيع الناس رَّبهم جل وعلا وحده.
• الثاني: أن تكون غير متعالي على الناس يعني أن تكون أنت وهم بمنزلة واحدة ليس معناه أنه عاصي معنى أنَّك خير منه لا تدري لمن تكون الخاتمة السعيدة، ولكن تكون أنت مقبلا في أن يكون هذا مقبلا على الله جل وعلا وأنت مخلص في أن يكون مهتديا إلى الله جل وعلا.
هذا الخُلق الأول الإخلاص مهم بل شرط من الشرائط وواجب من الواجبات، وإذا قيل خُلق أو أدب في عُرف أهل العلم لا يعني أن يكون مستحَبًّا، فقد يكون واجبا قد يكون شرطا قد يكون مستحبا.
Dثانيا: أن يكون ذكيا، حصيفا، نبيها، لأن حالة المدعو كثيرا ما تحتاج إلى تنبؤ، وهذا يأتينا في الأسباب يعني في دراسة حال المدعوّين، ينبغي أن يكون الداعية ذكي ونبيه وحصيف؛ يعني يعرف كيف يدعو، كيف يرتِّب النتائج على المقدمات، كيف يعرف الطريق الأحسن للدخول لذلك، والذكاء هنا ليس أمرا فطريا فحسب، بل يكون أيضا بالتجرُبة، يكون بالتدرج، لهذا من خالط، من جرّب الدعوة اكتسب شيئا من الخبرة في معرفة كيف يكون الذكاء والحصافة والرأي في التعامل مع الناس.
Dالأمر الثالث من أخلاق الداعية: أن يكون الداعية محبًّا لبذل الخير راغبا في هداية الناس عن طريق بذل ما عنده، وأن لا يحقر شيئا من الخير، يبذل جميع ما عنده، جميع قدراته التي يمكنه أن يبذلها, يبذلها إن كان شيئا من المال يستطيع بذله أو من الجاه يستطيع بذله, شيء من الحركة والعمل, من الخدمة, من طلاقة اللسان، من بذل بعض الأمور التي يكون لها أثر، هذه مطلوبة من الداعية، يعني أن يبذل ما عنده، وهذه قد قال فيها عليه الصلاة والسلام «لا تحقرنَّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» لا تحقرن من المعروف شيئا, هذه كلمة عظيمة لا تحقرنَّ من المعروف شيئا لأنك ربما حقرت شيئا من المعروف ولو بسمة واحدة حقرتها لكن أثرها لن تراه أنت ربما يراه غيرك؛ بانفتاح صدر هذا المدعو في قبوله ما عند صاحب الخير، أما إذا لقي الداعية أو الذي يرغب في هداية الناس للخير، لقي الناس وهو مكفهرّ الوجه أو وهو غير متقدم لهم بنفس طيبة؛ يحقر المعروف يحقر الخير، فهذا لا شك يشكل شيء من الحواجز أمامه، لهذا على الداعية أن يوطِّن نفسه أن يكون باذلا؛ إذا أردت أن تتحرك بالدعوة فابذلْ، تُوَطِّن نفسَكَ على أن تبذل، إذا كنت شحيحا لست بذي جود فلا تصلح للدعوة؛ الداعية يصلح له أن يكون جوادا؛ يعني أن يكون باذلا للخير غير شحيح، والشحّ ليس في المال فحسب، الشح يكون في اللفظ، في الحركة، يكون في المعروف، في أشياء كثيرة، ومنها المال، وقد قال جل وعلا﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾( [1]), ووصف ابن القيم رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية عند ذكره في كتاب مدارج السالكين في منزلة الجود ذكر شيخ الإسلام وقال:لم أرَ في العلم أجود من شيخ الإسلام ابن تيمية، ذلك أنه يأتي السائل فيسأله عن مسألة، فيجيب عن أكثر منها، وهذا ربما أُنتقد عليه، ولكن هذا من الجود بالعلم لأن مثل ذلك مثل من سئِل عن الطريق إلى مكة فوصف للسائل طريق مكة وطرق المدينة وطريق كذا وطريق كذا إلى آخره.. وهذا مأخوذ من قول النبي r حينما سئل عن التوضأ بماء البحر قال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»جواب السؤال (الطهور ماؤه) أما (الحل ميتته) فهذا زيادة في الجواب من الجود الذي ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى.
إذن في أخلاق الداعية لابد أن تُوطّن نفسك على أن تكون جوادا؛ جوادا في بيتك، جوادا في عملك، جوادا في السوق، جُود الطبيب وهو يمارس مهنته، جُود التاجر وهو يمارس مهنته، جُود القريب وهو يتعامل مع أقربائه، إلى آخره؛ يعني جُود هؤلاء وكونهم يكونون من أهل الجود، هذا من المهم في كل نِطاق لأن الجود سبب لانفتاح القلوب والناس يحبون من أحسن إليهم:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
وهذا واقع، إذن هذه الخصلة لابد أن توطّن نفسَك عليها، تكون جوادا ولو لم تكن كذلك في الداخل جرِّب نفسك؛ أن تكون جوادا بالكلمة، جوادا بالبشاشة، جوادا بالبذل مثلا من الأمثلة –وهذا سيأتي تطبيق له فيما نهدف إن شاء الله- مثلا رجل في بيته يشكو من وضع والده، يشكو من وضع ولده، يشكو من وضع إخوانه –مثلا- ويشكو, ويشكو، وهو إذا تعامل معهم في الدعوة يتعامل معهم من جهة الأمر والنهي، لكن لو خالط زملاءه، لو خالط أصحابه، وجد أنه معهم بشخصية أخرى غير الشخصية التي يتعامل بها مع أهل بيته، هذا الانفصام سببه أنه جواد مع أولئك بالكلمة، بالبذل، بالأخذ، فأثر فيمن أثر، وثبَّت من ثبَّت بتوفيق الله جل وعلا، أما في بيته فهو إنما هو آمر ناهي, والناس ليست مجبولة على من يحب أن يتسلط عليها؛ من يأمر وينهى، وإنما مجبولة على حب أن يقدّم لها، من يحسن إليها. إذن في البيت الجود لو جرّبته له أثره العظيم فجرّب مع أخيك الصغير، مع أخيك الكبير، مع والدك، مع ابنك، مع بنتك، مع أختك، مع قريبك، جرِّب هذا ستجد أن له أثرا وإن كان هذا الأثر ربما يكون بعد مدة لكنه أثر, وأوّل درجات الدعوة انفتاح قلب المدعو إلى الداعية؛ قلب من تريد أن تؤثر عليه أن ينفتح قلبه لك, ويحب الكلمة التي يسمعها منك, ويقتنع بالكلام الذي تقوله, ولو عشرة في المائة، عشرين في المائة, خمسين في المائة, في البداية. هذا خير عظيم، الأمور لا تصل إليها على خطوة واحدة، ومن الأسباب المهمة ما ذكرته لك وهو الجود فلا تحقر هذا السبب، فقد قال لك عليه الصلاة والسلام «لا تحقرنّ من المعروف شيئا» أيّ شيء من المعروف لا تحقره «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» بل إن ذلك فيه تنبيه على أن تلقى أخاك دائما بوجه طلق كما قال في الحديث الآخر «وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة».
Dمن الأخلاق المهمّة للداعية أن يكون واسع الأفق، يعني محلِّلا لما يجري حوله؛ يعني أحيانا يكون الأثر الذي يؤثر في المدعو سلبا, أو يؤثر في المدعو إيجابا، يكون هذا أثر غير مَرَضي يكون فيه أشياء في جوانب حياة هذا المدعو خاصة من لا تعاشره دائما, فهذا كيف تؤثر عليه؟ لا بد أن يكون عندك رؤية متّسعة للمؤثرات التي تؤثر على هذا المدعو، وهذه الرؤية المتسعة ستستنتج منها الأسباب التي تصدّ هذا المدعو عن قبول الخير، وستستنتج منها الأسباب التي تجعل هذا المدعو يُقبل على الخير، يعني هناك أشياء تجعل هذا يقبل لأن كل إنسان له عواطفه، له محبته وخاصة إذا كان مسلما فإنه عنده من الخير ما عنده، لكن ربما غطّى عليه كثير من الرَّان المنتشر في الناس، ولأسباب أخرى تارة تكون من نفسه والشيطان، وتارة تكون ممن حوله من الشياطين الذين يصدون الناس عن الحق، هذا لابد أن يكون عند الداعية استيعاب لما حوله، ثم إذا استوعب كانت رؤيته غير محدودة، بل رؤيته متسعة بعد ذلك يدرس هذه الأسباب، ويحاول أن يأتي ويحصّل الإيجابيات وأن يبتعد عن السلبيات، ولهذا جاء مبدأ المشاورة والتطاوع في الدعوة، يعني أحيانا يكون الإنسان لا يدرك الأشياء بنفسه خاصة من تحليل نفسيات المدعوين، لهذا قال عليه الصلاة والسلام لمن أرسلهما إلى اليمن «تطاوعا ولا تختلفا وبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا».
D أيضا من المهمات في أخلاق الداعية: أن يكون معتنيا بشيء من العلم المتصل بالدعوة، وأنّه يعلم أن الدعوة إلى الله جل وعلا مراتبها كبيرة جدا، هناك من الدعوة ما لا يصلح إلا للعلماء، هناك من الموضوعات ما لا يصلح أن يدعو إليه من العلماء, هناك من الموضوعات ما يصلح أن يدعو إليه كل مسلم؛ لأن كل مسلم معه من اليقين والعلم بأشياء من الحق ما ينبغي له أو إذا دعا فهو عنده من العلم في تلك الأشياء ما يجعله يدعو إليها.
العلم ذكرنا دليله في قوله جل وعلا﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ والبصيرة هي العلم؛ والعلم مهم وكما قلنا درجات، ولهذا أهل العلم يقولون لا يجوز لأحد أن يدعو حتى يعلم ما يدعو إليه، أما إذا كان جاهلا بالحكم، جاهلا بما يدعو إليه، فكيف يدعو إلى شيء وهو يجهل حكمه؟ لكن إذا دعا إلى تحبيب الناس في الخير، إلى تحبيب الناس في الاستقامة، في الصلاة، في الطاعة، في مؤاخاة الصالحين إلى آخره.. هذه أمور يشترك في معرفتها وفي العلم بها جميع المسلمين.
العلم لابد منه فيما تدعو إليه، إذا أردت أن تدعو إلى مسألة ليست من الواضحات فلا يجوز لك أن تتكلم فيها إلا بعد أن تكون عالما بها على ما قاله أهل العلم.
Dأيضا من الأخلاق المهمة أو من الآداب المهمة للداعية التي تكون من خلقه وشخصيته: أن يكون مرتبا للأولويات وهذا ما يُسمى بتقديم الأهم على المهم، أو ما يسميه بعض المعاصرين بفقه الأولويات -وهذا صحيح- تقديم الأوْلى على ما هو دونه، هذا مهم، تقديم الأهم على المهم، هذا أصل شرعي، كما قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم..» قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مسائل كتاب التوحيد: فيه البداءة بالأهم على المهم. نعم الأهم يُبدأ به قبل المهم، لابد أن يكون عندك معرفة بالأولويات ما المهم؟ بعض الناس ممكن أن يبدأ بالدعوة بفرعيات يعني بمستحبات ويترك الأصول، هذا ما بدأ بالأهم وترك المهم، بل بدأ بما هو من المستحبات وترك ربما الواجبات والفرائض، لابد أن يكون الداعية متمرسا في معرفة الأولى فالأولى، هل الأولى فالأولى في جميع الناس واحد؟ لا, في جميع المجتمعات واحد؟ لا، المجتمعات تختلف وكذلك الأفراد يختلفون، بل البيوت تختلف، فهناك أولويات في بيت ليست هي الأولويات في البيت الآخر، بل نفس الداعية عنده أولويات في بيته للدعوة، وينتقل قلبه إذا اتجه إلى عمله إلى أولويات أخر، وينتقل قلبه إذا خالط أصحابا له في أولويات أخر، فيكون عنده من فقه الأولويات ما يجعله إذا تكلم في كل مجلس يظن الظان أنه متناقض؛ يتكلم هنا بكلام وهناك بكلام، والواقع أنه من فقهه؛ جعل الأولويات التي يتكلم بها مع أهله غير الأولويات التي يتكلم بها مع أصحابه غير الأولويات التي يتكلم بها مع العامة وهكذا.
فإذن من فقه الداعية ومن الأخلاق التي لابد له أن تكون معه أن يكون عنده ترتيب للمهمات ترتيب للأولويات، وهذا يتطلب أن يكون معه الأشياء السابقة وهي أن يكون ذكيا فطنا واسعا حتى يمكن أن يعرف ما هي الأولويات المتصلة بهذا الفرد، بهذه الأسرة، بهذا البيت، إلى آخره, فإذا رتبت هذه الأولويات عرفت كيف تبدأ، وأما إذا لم ترتب ربما أتيت من قبيل الغيرة، وأمرت ونهيت وأقمت الدنيا وأقعدتها، لكن هل أثرت في القلوب؟ الجواب: لا. ربما المرء يحترم في بيته قد يحترمه أولاده، قد يحترمه إخوانه، لكن المهم أن يحترموه وبعد الاحترام أن يطيعوه, وأن يقتنعوا بالحق الذي معه, وهذا ليس مهمة الآمر الناهي فقط. بل مهمته أن يكون مع أمره ونهيه دعوة بشرائطها ومتطلباتها.
Dأيضا من الأخلاقيات المهمة في الداعية: أن يكون متخلِّصا عن حظ نفسه، دائما يكون باغٍ لحق الآخرين بعيدا عن أداء حق نفسه, وهذا نبينا r ربما أتى إليه الأعرابي وجذبه من وراء ظهره بقوة من ردائِه، والنبي عليه الصلاة والسلام يجيبه إجابة سمحة، وربما قام عليه الرجل فتكلم عليه، وقام عليه بسيفه، فأجابه بإجابة يكون فيها البَر والطمأنينة له، فيه أحاديث معلومة ليس هذا محل ذكرِها.
المقصود من هذا أن الداعية يجب عليه أن يكون متخلصا، يعني وأنت في دعوتك تكون متخلصا عن نفسك يعني هذه النفس التي بين جنبيك احترامها، قوتها، إلى آخره هذه اجعلها تنزل مرتبة أو مرتبتين أو ثلاث لأن الناس خاصة إذا تعاملوا مع من يدعوهم إذا رأوا أنه يتسلط ولو بكلمة فيها شيء من القوة والغلظة فهم لا يقبلوها ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[آل عمران:159] وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وهم صحابته الكرام عليهم رضوان الله، هكذا الناس، الناس مجبولون على أنهم لا يقبلون الذي يخالف ما هم عليه؛ إذا تأمره بشيء يخالف رغبته لا يقبل ذلك، فمتى يكون لك حظ عند المدعوين؟ إذا تخلصت من رغبات نفسك, وهذا يظهر عند اللقاء، عند النقاش؛ فإذا أمرت أو دعوت فتكلَّم عليك ربما والدك، ربما ابنك، ربما أخوك، ربما أختك، وهكذا ربما يتكلم عليك، فهل معنى ذلك تظهر لك العزة وأنت تتمثل مقام الدعوة؟ لا, بل يظهر عندك مقام الداعية رحْب الصدر الذي يمكن أن يناقش، يمكن أن يتكلم في كل مسألة، وإذا ضاق به الأمر وأُحرج؛ لأنه ربما يكون المدعو يُحرج الداعية بأشياء، لأنه هو مضطرب فيها أو لا يكون عنده إلمام بها إلى أشباه ذلك يعتذر لأنه دون خطأ, لكن يرتب المهمات لأن المهم إذا وصلتَ إليه يعني الأَوْلى الأهم إذا وصلت إليه فإنه متفَق عليه؛ المحافظة مثلا على الصلوات، التزام المرأة مثلا بحجابها، بسترها، بقلة خروجها إلى آخره, التزام الرجل بآدابه، عدم مخالطة الأشراف إلى غير ذلك، هذه الأشياء تكون متفق عليها، فيأتي الكلام في خلافيات معينة.
الانتصار للرأي يَحْرِم الدعوة، فلهذا على الداعية أن يكون واسع الصدر، أن يكون متخلصا عن نفسه، وعن الانتصار لنفسه؛ يعني لا بأس أن يقول أخطأتُ ولا بأس أن يقول معك الصواب، وألا يرتفع لأنه إذا رفع نفسه على غيره فإنه لن يقبل الداعية ندًّا, لا بد أن يكون جاعلا نفسه أقل من غيره وهو يخاطب الآخرين؛ إذا جعل نفسه ندًّا لغيره أو متعاليا فإنه في الغالب يكون كلامه محترمًا، لكن لا يكون محل قناعة وقبول.
كيف تدعو إلى الله؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلواتُ الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، وعلى أزواج نبينا محمد وعلى صحابته، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فموضوع هذا الدرس كيف تدعو إلى الله؟
وسبب اختيار هذا الموضوع ما هو معلوم من أن الدعوة إلى الله جل وعلا مهمّة عظيمة، وأن كلَّ من رغِب في الخير واستقام على الإسلام فإنه يروم أن يهديَ غيره؛ لأنّ في ذلك الفضل الجزيل، وفي ذلك العائدة العظمى عليه وعلى غيره, وأعظم عائدةٍ على المستقيم على الصراط أن يكون له مثل أجور من هداهم إلى الله جل وعلا, فقد ثبت في الصحيح أن النبي r أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا يَنْقص ذلك من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه لا ينقص من أوزارهم شيء» وقد قال عليه الصلاة والسلام لعلي حين بعثه إلى خيبر «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» يعني من الإبل الحمراء الغالية عند أهلها، فإن الدعوة إلى الله جل وعلا؛ وأن يهدي الله على يديك واحدا من الناس رجلا أو امرأة، صغيرا أو كبيرا فإن في ذلك الفضل العظيم عليك؛ ولأن تعطى كذا وكذا من الأموال الجزيلة في هذا الزمن ليس بأفضل لك من أن يُهدى على يديك رجل واحد، لكن كما نرى أن كثيرين يريدون أن يدعوا, كثيرين يريدون أن يهدوا الناس، لكن سبيلُ ذلك لا تكون ماثلةً أمام أعينهم، ربما جربوا تَجْرُبات ليست بالمستقيمة، ربما حاولوا محاولات لم تكن مؤصلة لم تكن عن تجربة، لم تكن عن استرشاد بمن جرّب فنجح، فلهذا تكون خطاهم متعثّرة، وهؤلاء ربما فعلوا أشياء ودعوا، وكان في دعوتهم من الخطأ ما حجز آخرين عن قبول الحق والهدى؛ لأن خطأ الداعية ليس كخطأ غيره، ولهذا أمر الله جل وعلا الأنبياء جميعا بالصبر وأن لا يستخفَّهم الذين لا يؤمنون، كما قال جل وعلا﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾[الروم:60]، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾[الأحقاف:35]، فإن الدعوة أساسُها الحكمة، أساسها الأناة، أساسها أن يكون العبد سائرا على ما أمر الله جل وعلا به، وما نهى، فيما يأتي ويذر في أمر الناس، وإذا كان كذلك فإنّ دعوته يُرجى أن تُؤتي ثمارها ولو بعد حين.
الدعوة إلى الله جل وعلا مطلبٌ للجميع؛ مطلب من حيث العمل، ومطلب من حيث الغاية؛ لأن الغاية؛ غاية المجتمع المسلم أن يكون مستسلما لله جل وعلا، منقادا له في الظاهر ومنقادا له في الباطن أيضا, وهذه الغاية ينبغي للأفراد أن يسعوا في تحقيقها، وللمجتمعات أن تسعى في تحقيقها، وكذلك لدولة الإسلام أن تسعى إلى تحقيقها، فإنّ تعبيد الناس لله جل وعلا هو الغاية من خلقِهم، فإذا أدرك الناس ذلك فاستقاموا عليه، فذلك فضل، و إلا فإن الناس يدعوا بعضهم بعضا ويُرشد بعضهم بعضا، لهذا كانت هذه المحاضرة أو كان هذا الدرس؛ كيف تدعو إلى الله جل وعلا؟ كان مُهِمًّا في إعطاء بعض النقاط، وليس بشمول ما يتصل بهذه المسألة؛ لأنها طويلة الذيول، لكن بما يفتح آفاقا لدى الذي يحب أن يكون هاديا للناس سائرا على الحق على صراط سوي.
المتأمل اليوم في أحوال الناس يجد أن الدعوة على أنواع:
>منها دعوة فردية ونعني بالدعوة الفردية أن يكون الفرد يدعو فردا آخر، أو أن يكون أفرادا يدعون أفرادا.
>ومنها دعوة جماعية، والدعوة الجماعية أيضا من حيث الواقع منقسمة إلى قسمين:
• منهم من يدعو جماعيا على أساس التعاون على البر والتقوى؛ ويتعاونون ويجتمعون على أن يهدوا الناس، يُرتّبون أمرهم؛ كيف دعوة هذا ومصداقية في نجاح التأثير عليه أو التأثير على هذه الأسرة أو نحو ذلك..
• وهناك قسم آخر من الدعوة الجماعية وهي الدعوة الجماعية المنظّمة التي تكون عن تنظيم بتجسيد المهمات ويكون هناك قيادة وهناك فروع لهذا التنظيم.
وهذه التقسيمات من جهة الوجود، أما من حيث مشروعية كل قسم وتفاصيل الكلام عليه فسنعرض له إن شاء الله تعالى في مكان آخر من هذه الدروس.
الذي يهمُّنا من هذا التقسيم في هذا الدرس هو القسم الأول وهو الدعوة الفردية التي يمكن أن يعمل بها المرء بمفرده, كيف يمكن أن تكون أنت داعية إلى الله جل وعلا؟ كيف يمكن أن تهدي الناس؟ كيف تمشي في هذا الطريق دون عقبات ودون أن تتردد فيه وتؤثر على الناس ويُقبَل منك ذلك؟
إذا تأمّلت الواقع الذي تعيشه هذه البلاد، بل وواقع الأمة الإسلامية بعامة وجدتَ أن الخير ينتشر يوما بعد يوم من جهة اهتداء الناس إلى الإسلام ومحبتهم إلى الالتزام به، ورغبتهم في تعاليمه، وإقبالهم على الخير، لا شك أن الناس يزدادون إقبالا يوما بعد يوم.
فإلى أي شيء يُعزى هذا الانتشار العظيم؟
هل هو نتيجة للدعوة الجماعية التنظيمية؟ لاشك فإن الذي يقول إنه نتيجة لذلك أنه مغالي وليس له في الواقع نصيب.
هل هو نتيجة لدعوة جماعية فيها تعاون على البر والتقوى؟ أيضا يعني دعوة جماعية مرتّبة ليس فيها تنظيم وقيادة إلى غير ذلك، يعني ليس لها صفة الحزبية أيضا هذا فيه بعد.
ولكن الواقع أن أكثر الأسباب ظهورًا إلى انتشار الإسلام، وفي زيادة الصحوة، وإقبال الناس نساء ورجالا على الخير وعلى الهدى، هو نشاط الأفراد؛ هذا ينشط في عمله، وهذا ينشط في أسرته، وهذا ينشط في حيِّه، وهذا الإمام ينشط مع جماعته، إلى آخره، فأكثرها نشاطات فردية، وهذه النشاطات الفردية لا شك تستفيد مما يجري حولها بأنواع من الاستفادة منها ما هو جيد ومنها ما هو ليس بجيد، منها ما هو منضبط ومنها ما ليس بمنضبط، إلى آخر ذلك..
المهم أن سبب انتشار الخير كان هو الدعوة الفردية؛ دعوة الناس بعضهم بعضا بدون مؤثرات عظيمة؛ مؤثرات جماعية، وإنما هذا يُرغّب في الخير فأثّر في أسرته، هذا يُرغّب في الخير فأثَّر في عمله، تجد أنه قرأ كلمة طيبة فنشرها إلى آخر ذلك..
فهذا الترتيب وهو أن من أكبر أسباب انتشار الصحوة وزيادة الخير هو جهد الأفراد، هو الذي نريد أن يعلُق بالأذهان حتى لا يظن الظان أنه لا يمكن أن يدعو حتى يكون معه أناس، وحتى يكون معه من يساعده، وحتى يكون هناك من يرتبه، وهذا أمر لا بد منه، لأنه إذا شعر بأنه يمكن أن يعمل بمفرده، يمكن أن يدعو بمفرده، لاشك أنه إذا كان هناك معه غيره يدعون بما فيه تعاون على البر والتقوى، تُؤتِي الدعوة ثمرات أكثر في قطاعات كبيرة لكن إذا كان يشعر أنه إذا عمل بمفرده فإنه سينتج ولا يحتاج إلى غيره في أمر الدعوة فإنه يشجّعه ذلك، وهذا الذي ينبغي أن يقرّ في الأذهان بادئ ذي بدء قبل الدّخول في هذا الموضوع الذي نعرض أطرافا منه.
إذن فمهمتك أيها المسلم هي أن تحمل أولا همَّ هذه الدعوة، أن تحمل أولا همَّ مصلحتك؛ لأنك إذا دعوت فإنك لا تدعو لأجل أن تكون المصلحة لغيرك، أن تدعو لأجل أن تكون المصلحة لك، لأنك إذا دعوت أحدا إلى الله جل وعلا فاستقام وعمل شيئا من الخير فلك مثل أجره، فتزداد حسناتك بسبب هداية الناس إلى الحق والهدى، هذا الترغيب الذي يجعلك تقدم، لابد له من ضوابط، لابد أن تعرف ما فيه من محاذير، لابد أن تعرف ما له من أحكام، وهذا هو الذي سنطرقه إن شاء الله فيما نستقبل من الكلام.
الداعية المفرد الذي يدعو بنفسه أولا لابد أن يكون نبيها ذكيا من جهة حال المدعوين بل أقول قبل ذلك.
Dأولا: لابد أن يكون في دعوته متجردا مخلصا لله جل وعلا، يعني له رغب في قلبه أن يجعل الناس مطيعين لله جل وعلا، ليس له رغب في الدنيا، ليس له رغب في الجاه، ليس له رغب في السمعة، ليس له رغب في السيطرة، ليس له رغب في أن يكون متعاليا على الناس، مما هي من أنواع الأخلاقيات التي قد تعرض على بعض القلوب التي تدعو إلى الله.
المهم الأول أن يكون مخلصا لله متذللا مطيعا، ترغب أن تهدي الخلق إلى الله جل وعلا، لا أن تهديهم إلى غيره، وهذا الشرط جاء في قول الله جل وعلا﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف:108]، في هذه الآية أمر الله جل وعلا نبيَّه أن يقول هذه سبيلي؛ قل يا محمد للناس جميعا وللكفار بوجه الخصوص (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ), قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مسائل كتاب التوحيد في قوله (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) التنبيه على الإخلاص، وهذا أمر مهمّ مطلوب دائما أن يكون في قلبك العمل لله جل وعلا، ثم قال على بصيرة والبصيرة للقلب كالبصر للعين، البصيرة هي العلم الواضح الذي يكون معه صورة الأشياء العلمية، صورة الأشياء العملية أمام الخلق في وضوح، كما تكون الأشياء المبصَرة بالعين أمام العين في وضوح إذا توجه النظر إليها, (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) فذكر شرط الإخلاص وذكر شرط البصيرة والعلم مما سيأتي بيانه. هذا الشرط معروف ولابد أن يتوطَّن قلبك أن تكون مخلصا لستَ مسيطرا، لستَ طالبا ذا سمعة، و هذا من الأخلاقيات المهمة، والدعائم المهمة للداعية، لما؟ لأن بعض الناس قد يأتي يدعو يرى الذي أمامه عنده مخالفات، عنده بلاء عظيم، حتى ولو كان الشرك والبدعة أو ما هو أقل من ذلك من كبائر الذنوب، أو تفريط في الفرائض أو الصغائر، قد ينظر إلى أنه متعالي عليه، فيأتي فيدعو من جهة التعالي، من جهة الاستعلاء، فيكون أمره ونهيه ليس صادرا من قلب مخلص تمام الإخلاص، وإنما فيه شيء من الاستعلاء وهذا يفسد القبول.
فإذن عندنا الأمر الأول المهم هو أن تكون مخلصا وفهمتَ معنى الإخلاص:
• أولا: أن لا تدعو إلى غير الله يعني لا تحبب الناس في غير الله، وإنما تريد أن يطيع الناس رَّبهم جل وعلا وحده.
• الثاني: أن تكون غير متعالي على الناس يعني أن تكون أنت وهم بمنزلة واحدة ليس معناه أنه عاصي معنى أنَّك خير منه لا تدري لمن تكون الخاتمة السعيدة، ولكن تكون أنت مقبلا في أن يكون هذا مقبلا على الله جل وعلا وأنت مخلص في أن يكون مهتديا إلى الله جل وعلا.
هذا الخُلق الأول الإخلاص مهم بل شرط من الشرائط وواجب من الواجبات، وإذا قيل خُلق أو أدب في عُرف أهل العلم لا يعني أن يكون مستحَبًّا، فقد يكون واجبا قد يكون شرطا قد يكون مستحبا.
Dثانيا: أن يكون ذكيا، حصيفا، نبيها، لأن حالة المدعو كثيرا ما تحتاج إلى تنبؤ، وهذا يأتينا في الأسباب يعني في دراسة حال المدعوّين، ينبغي أن يكون الداعية ذكي ونبيه وحصيف؛ يعني يعرف كيف يدعو، كيف يرتِّب النتائج على المقدمات، كيف يعرف الطريق الأحسن للدخول لذلك، والذكاء هنا ليس أمرا فطريا فحسب، بل يكون أيضا بالتجرُبة، يكون بالتدرج، لهذا من خالط، من جرّب الدعوة اكتسب شيئا من الخبرة في معرفة كيف يكون الذكاء والحصافة والرأي في التعامل مع الناس.
Dالأمر الثالث من أخلاق الداعية: أن يكون الداعية محبًّا لبذل الخير راغبا في هداية الناس عن طريق بذل ما عنده، وأن لا يحقر شيئا من الخير، يبذل جميع ما عنده، جميع قدراته التي يمكنه أن يبذلها, يبذلها إن كان شيئا من المال يستطيع بذله أو من الجاه يستطيع بذله, شيء من الحركة والعمل, من الخدمة, من طلاقة اللسان، من بذل بعض الأمور التي يكون لها أثر، هذه مطلوبة من الداعية، يعني أن يبذل ما عنده، وهذه قد قال فيها عليه الصلاة والسلام «لا تحقرنَّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» لا تحقرن من المعروف شيئا, هذه كلمة عظيمة لا تحقرنَّ من المعروف شيئا لأنك ربما حقرت شيئا من المعروف ولو بسمة واحدة حقرتها لكن أثرها لن تراه أنت ربما يراه غيرك؛ بانفتاح صدر هذا المدعو في قبوله ما عند صاحب الخير، أما إذا لقي الداعية أو الذي يرغب في هداية الناس للخير، لقي الناس وهو مكفهرّ الوجه أو وهو غير متقدم لهم بنفس طيبة؛ يحقر المعروف يحقر الخير، فهذا لا شك يشكل شيء من الحواجز أمامه، لهذا على الداعية أن يوطِّن نفسه أن يكون باذلا؛ إذا أردت أن تتحرك بالدعوة فابذلْ، تُوَطِّن نفسَكَ على أن تبذل، إذا كنت شحيحا لست بذي جود فلا تصلح للدعوة؛ الداعية يصلح له أن يكون جوادا؛ يعني أن يكون باذلا للخير غير شحيح، والشحّ ليس في المال فحسب، الشح يكون في اللفظ، في الحركة، يكون في المعروف، في أشياء كثيرة، ومنها المال، وقد قال جل وعلا﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾( [1]), ووصف ابن القيم رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية عند ذكره في كتاب مدارج السالكين في منزلة الجود ذكر شيخ الإسلام وقال:لم أرَ في العلم أجود من شيخ الإسلام ابن تيمية، ذلك أنه يأتي السائل فيسأله عن مسألة، فيجيب عن أكثر منها، وهذا ربما أُنتقد عليه، ولكن هذا من الجود بالعلم لأن مثل ذلك مثل من سئِل عن الطريق إلى مكة فوصف للسائل طريق مكة وطرق المدينة وطريق كذا وطريق كذا إلى آخره.. وهذا مأخوذ من قول النبي r حينما سئل عن التوضأ بماء البحر قال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»جواب السؤال (الطهور ماؤه) أما (الحل ميتته) فهذا زيادة في الجواب من الجود الذي ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى.
إذن في أخلاق الداعية لابد أن تُوطّن نفسك على أن تكون جوادا؛ جوادا في بيتك، جوادا في عملك، جوادا في السوق، جُود الطبيب وهو يمارس مهنته، جُود التاجر وهو يمارس مهنته، جُود القريب وهو يتعامل مع أقربائه، إلى آخره؛ يعني جُود هؤلاء وكونهم يكونون من أهل الجود، هذا من المهم في كل نِطاق لأن الجود سبب لانفتاح القلوب والناس يحبون من أحسن إليهم:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
وهذا واقع، إذن هذه الخصلة لابد أن توطّن نفسَك عليها، تكون جوادا ولو لم تكن كذلك في الداخل جرِّب نفسك؛ أن تكون جوادا بالكلمة، جوادا بالبشاشة، جوادا بالبذل مثلا من الأمثلة –وهذا سيأتي تطبيق له فيما نهدف إن شاء الله- مثلا رجل في بيته يشكو من وضع والده، يشكو من وضع ولده، يشكو من وضع إخوانه –مثلا- ويشكو, ويشكو، وهو إذا تعامل معهم في الدعوة يتعامل معهم من جهة الأمر والنهي، لكن لو خالط زملاءه، لو خالط أصحابه، وجد أنه معهم بشخصية أخرى غير الشخصية التي يتعامل بها مع أهل بيته، هذا الانفصام سببه أنه جواد مع أولئك بالكلمة، بالبذل، بالأخذ، فأثر فيمن أثر، وثبَّت من ثبَّت بتوفيق الله جل وعلا، أما في بيته فهو إنما هو آمر ناهي, والناس ليست مجبولة على من يحب أن يتسلط عليها؛ من يأمر وينهى، وإنما مجبولة على حب أن يقدّم لها، من يحسن إليها. إذن في البيت الجود لو جرّبته له أثره العظيم فجرّب مع أخيك الصغير، مع أخيك الكبير، مع والدك، مع ابنك، مع بنتك، مع أختك، مع قريبك، جرِّب هذا ستجد أن له أثرا وإن كان هذا الأثر ربما يكون بعد مدة لكنه أثر, وأوّل درجات الدعوة انفتاح قلب المدعو إلى الداعية؛ قلب من تريد أن تؤثر عليه أن ينفتح قلبه لك, ويحب الكلمة التي يسمعها منك, ويقتنع بالكلام الذي تقوله, ولو عشرة في المائة، عشرين في المائة, خمسين في المائة, في البداية. هذا خير عظيم، الأمور لا تصل إليها على خطوة واحدة، ومن الأسباب المهمة ما ذكرته لك وهو الجود فلا تحقر هذا السبب، فقد قال لك عليه الصلاة والسلام «لا تحقرنّ من المعروف شيئا» أيّ شيء من المعروف لا تحقره «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» بل إن ذلك فيه تنبيه على أن تلقى أخاك دائما بوجه طلق كما قال في الحديث الآخر «وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة».
Dمن الأخلاق المهمّة للداعية أن يكون واسع الأفق، يعني محلِّلا لما يجري حوله؛ يعني أحيانا يكون الأثر الذي يؤثر في المدعو سلبا, أو يؤثر في المدعو إيجابا، يكون هذا أثر غير مَرَضي يكون فيه أشياء في جوانب حياة هذا المدعو خاصة من لا تعاشره دائما, فهذا كيف تؤثر عليه؟ لا بد أن يكون عندك رؤية متّسعة للمؤثرات التي تؤثر على هذا المدعو، وهذه الرؤية المتسعة ستستنتج منها الأسباب التي تصدّ هذا المدعو عن قبول الخير، وستستنتج منها الأسباب التي تجعل هذا المدعو يُقبل على الخير، يعني هناك أشياء تجعل هذا يقبل لأن كل إنسان له عواطفه، له محبته وخاصة إذا كان مسلما فإنه عنده من الخير ما عنده، لكن ربما غطّى عليه كثير من الرَّان المنتشر في الناس، ولأسباب أخرى تارة تكون من نفسه والشيطان، وتارة تكون ممن حوله من الشياطين الذين يصدون الناس عن الحق، هذا لابد أن يكون عند الداعية استيعاب لما حوله، ثم إذا استوعب كانت رؤيته غير محدودة، بل رؤيته متسعة بعد ذلك يدرس هذه الأسباب، ويحاول أن يأتي ويحصّل الإيجابيات وأن يبتعد عن السلبيات، ولهذا جاء مبدأ المشاورة والتطاوع في الدعوة، يعني أحيانا يكون الإنسان لا يدرك الأشياء بنفسه خاصة من تحليل نفسيات المدعوين، لهذا قال عليه الصلاة والسلام لمن أرسلهما إلى اليمن «تطاوعا ولا تختلفا وبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا».
D أيضا من المهمات في أخلاق الداعية: أن يكون معتنيا بشيء من العلم المتصل بالدعوة، وأنّه يعلم أن الدعوة إلى الله جل وعلا مراتبها كبيرة جدا، هناك من الدعوة ما لا يصلح إلا للعلماء، هناك من الموضوعات ما لا يصلح أن يدعو إليه من العلماء, هناك من الموضوعات ما يصلح أن يدعو إليه كل مسلم؛ لأن كل مسلم معه من اليقين والعلم بأشياء من الحق ما ينبغي له أو إذا دعا فهو عنده من العلم في تلك الأشياء ما يجعله يدعو إليها.
العلم ذكرنا دليله في قوله جل وعلا﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ والبصيرة هي العلم؛ والعلم مهم وكما قلنا درجات، ولهذا أهل العلم يقولون لا يجوز لأحد أن يدعو حتى يعلم ما يدعو إليه، أما إذا كان جاهلا بالحكم، جاهلا بما يدعو إليه، فكيف يدعو إلى شيء وهو يجهل حكمه؟ لكن إذا دعا إلى تحبيب الناس في الخير، إلى تحبيب الناس في الاستقامة، في الصلاة، في الطاعة، في مؤاخاة الصالحين إلى آخره.. هذه أمور يشترك في معرفتها وفي العلم بها جميع المسلمين.
العلم لابد منه فيما تدعو إليه، إذا أردت أن تدعو إلى مسألة ليست من الواضحات فلا يجوز لك أن تتكلم فيها إلا بعد أن تكون عالما بها على ما قاله أهل العلم.
Dأيضا من الأخلاق المهمة أو من الآداب المهمة للداعية التي تكون من خلقه وشخصيته: أن يكون مرتبا للأولويات وهذا ما يُسمى بتقديم الأهم على المهم، أو ما يسميه بعض المعاصرين بفقه الأولويات -وهذا صحيح- تقديم الأوْلى على ما هو دونه، هذا مهم، تقديم الأهم على المهم، هذا أصل شرعي، كما قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم..» قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مسائل كتاب التوحيد: فيه البداءة بالأهم على المهم. نعم الأهم يُبدأ به قبل المهم، لابد أن يكون عندك معرفة بالأولويات ما المهم؟ بعض الناس ممكن أن يبدأ بالدعوة بفرعيات يعني بمستحبات ويترك الأصول، هذا ما بدأ بالأهم وترك المهم، بل بدأ بما هو من المستحبات وترك ربما الواجبات والفرائض، لابد أن يكون الداعية متمرسا في معرفة الأولى فالأولى، هل الأولى فالأولى في جميع الناس واحد؟ لا, في جميع المجتمعات واحد؟ لا، المجتمعات تختلف وكذلك الأفراد يختلفون، بل البيوت تختلف، فهناك أولويات في بيت ليست هي الأولويات في البيت الآخر، بل نفس الداعية عنده أولويات في بيته للدعوة، وينتقل قلبه إذا اتجه إلى عمله إلى أولويات أخر، وينتقل قلبه إذا خالط أصحابا له في أولويات أخر، فيكون عنده من فقه الأولويات ما يجعله إذا تكلم في كل مجلس يظن الظان أنه متناقض؛ يتكلم هنا بكلام وهناك بكلام، والواقع أنه من فقهه؛ جعل الأولويات التي يتكلم بها مع أهله غير الأولويات التي يتكلم بها مع أصحابه غير الأولويات التي يتكلم بها مع العامة وهكذا.
فإذن من فقه الداعية ومن الأخلاق التي لابد له أن تكون معه أن يكون عنده ترتيب للمهمات ترتيب للأولويات، وهذا يتطلب أن يكون معه الأشياء السابقة وهي أن يكون ذكيا فطنا واسعا حتى يمكن أن يعرف ما هي الأولويات المتصلة بهذا الفرد، بهذه الأسرة، بهذا البيت، إلى آخره, فإذا رتبت هذه الأولويات عرفت كيف تبدأ، وأما إذا لم ترتب ربما أتيت من قبيل الغيرة، وأمرت ونهيت وأقمت الدنيا وأقعدتها، لكن هل أثرت في القلوب؟ الجواب: لا. ربما المرء يحترم في بيته قد يحترمه أولاده، قد يحترمه إخوانه، لكن المهم أن يحترموه وبعد الاحترام أن يطيعوه, وأن يقتنعوا بالحق الذي معه, وهذا ليس مهمة الآمر الناهي فقط. بل مهمته أن يكون مع أمره ونهيه دعوة بشرائطها ومتطلباتها.
Dأيضا من الأخلاقيات المهمة في الداعية: أن يكون متخلِّصا عن حظ نفسه، دائما يكون باغٍ لحق الآخرين بعيدا عن أداء حق نفسه, وهذا نبينا r ربما أتى إليه الأعرابي وجذبه من وراء ظهره بقوة من ردائِه، والنبي عليه الصلاة والسلام يجيبه إجابة سمحة، وربما قام عليه الرجل فتكلم عليه، وقام عليه بسيفه، فأجابه بإجابة يكون فيها البَر والطمأنينة له، فيه أحاديث معلومة ليس هذا محل ذكرِها.
المقصود من هذا أن الداعية يجب عليه أن يكون متخلصا، يعني وأنت في دعوتك تكون متخلصا عن نفسك يعني هذه النفس التي بين جنبيك احترامها، قوتها، إلى آخره هذه اجعلها تنزل مرتبة أو مرتبتين أو ثلاث لأن الناس خاصة إذا تعاملوا مع من يدعوهم إذا رأوا أنه يتسلط ولو بكلمة فيها شيء من القوة والغلظة فهم لا يقبلوها ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[آل عمران:159] وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وهم صحابته الكرام عليهم رضوان الله، هكذا الناس، الناس مجبولون على أنهم لا يقبلون الذي يخالف ما هم عليه؛ إذا تأمره بشيء يخالف رغبته لا يقبل ذلك، فمتى يكون لك حظ عند المدعوين؟ إذا تخلصت من رغبات نفسك, وهذا يظهر عند اللقاء، عند النقاش؛ فإذا أمرت أو دعوت فتكلَّم عليك ربما والدك، ربما ابنك، ربما أخوك، ربما أختك، وهكذا ربما يتكلم عليك، فهل معنى ذلك تظهر لك العزة وأنت تتمثل مقام الدعوة؟ لا, بل يظهر عندك مقام الداعية رحْب الصدر الذي يمكن أن يناقش، يمكن أن يتكلم في كل مسألة، وإذا ضاق به الأمر وأُحرج؛ لأنه ربما يكون المدعو يُحرج الداعية بأشياء، لأنه هو مضطرب فيها أو لا يكون عنده إلمام بها إلى أشباه ذلك يعتذر لأنه دون خطأ, لكن يرتب المهمات لأن المهم إذا وصلتَ إليه يعني الأَوْلى الأهم إذا وصلت إليه فإنه متفَق عليه؛ المحافظة مثلا على الصلوات، التزام المرأة مثلا بحجابها، بسترها، بقلة خروجها إلى آخره, التزام الرجل بآدابه، عدم مخالطة الأشراف إلى غير ذلك، هذه الأشياء تكون متفق عليها، فيأتي الكلام في خلافيات معينة.
الانتصار للرأي يَحْرِم الدعوة، فلهذا على الداعية أن يكون واسع الصدر، أن يكون متخلصا عن نفسه، وعن الانتصار لنفسه؛ يعني لا بأس أن يقول أخطأتُ ولا بأس أن يقول معك الصواب، وألا يرتفع لأنه إذا رفع نفسه على غيره فإنه لن يقبل الداعية ندًّا, لا بد أن يكون جاعلا نفسه أقل من غيره وهو يخاطب الآخرين؛ إذا جعل نفسه ندًّا لغيره أو متعاليا فإنه في الغالب يكون كلامه محترمًا، لكن لا يكون محل قناعة وقبول.