المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصص أنبياء الله ورسله



جواد الفجر
07 May 2005, 02:22 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

فصل في ذكر قصة آدم عليه السلام

هذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن وقد تكلمنا على ذلك كله فى التفسير، ولنذكر هاهنا مضمون ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات وما يتعلق بها من الأحاديث الواردة فى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله المستعان.
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلا لهم: {إنى جاعل فى الأرض خليفة} أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضًا، كما قال: {وهو الذى جعلكم خلائف الأرض} فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته، كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه، فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة لا على وجه الاعتراض والتنقص لبنى آدم والحسد لهم، كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين، قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} قيل: علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن، قاله قتادة.

وقال عبد الله بن عمر: كانت الجن قبل آدم بألفى عام، فسفكوا الدماء فبعث الله إليهم جندًا من الملائكة، فطردوهم إلى جزائر البحور. وعن ابن عباس نحوه. وعن الحسن أُلهموا ذلك. وقيل: لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ، فقيل: أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما، يقال له: الشجل. رواه ابن أبى حاتم عن أبى جعفر الباقر. وقيل: لأنهم علموا أن الأرض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالبًا. {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} أى نعبدك دائمًا لا يعصيك منا أحد، فإن كان المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن لا نفتر ليلاً ولا نهارًا {قال إنى أعلم ما لا تعلمون} أى أعلم من المصلحة الراجحة فى خلق هؤلاء {ما لا تعلمون} أى سيوجد منهم الأنبياء والمرسلون والصديقون والشهداء، ثم بين لهم شرف آدم عليهم فى العلم، فقال: {وعلم آدم الأسماء كلها}، قال ابن عباس: هى هذه الأسماء التى يتعارف بها الناس إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وجمل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وفى رواية: علمه اسم الصحفة والقدر حتى الفسوة والفسية، وقال مجاهد: علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شىء. وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد.

وقال الربيع: علمه أسماء الملائكة، وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته. والصحيح: أنه علمه أسماء الذوات، وأفعالها مكبرها ومصغرها، كما أشار إليه ابن عباس رضى الله عنهما. وذكر البخارى هنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شىء)، وذكر تمام الحديث. {ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} قال الحسن البصرى: لما أراد الله خلق آدم، قالت الملائكة: لا يخلق ربنا خلقًا إلا كنا أعلم منه، فابتلوا بهذا، وذلك قوله: {إن كنتم صادقين} وقيل: غير ذلك كما بسطناه فى التفسير، قالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}، أى سبحانك أن يحيط أحد بشىء من علمك من غير تعليمك.

كما قال: {ولا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء}، {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} أى أعلم السر كما أعلم العلانية، وقيل: إن المراد بقوله: {وأعلم ما تبدون} ما قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} وبقوله: {وما كنتم تكتمون} المراد بهذا الكلام إبليس حين أسر الكبر والتخيرة على آدم عليه السلام، قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدى والضحاك والثورى واختاره ابن جرير.

وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة: {وما كنتم تكتمون} قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه، قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر} هذا إكرام عظيم من الله تعالى لآدم حين خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، كما قال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين}، فهذه أربع تشريفات: خلقه له بيده الكريمة، ونفخه فيه من روحه، وأمره الملائكة بالسجود له، وتعليمه أسماء الأشياء، ولهذا قال له موسى الكليم، حين اجتمع هو وإياه فى الملأ الأعلى وتناظرا، كما سيأتى: (أنت آدم أبو البشر، الذى خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شىء)، وهكذا يقول أهل المحشر يوم القيامة، كما تقدم، وكما سيأتى إن شاء الله تعالى.

وقال فى الآية الأخرى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين}. قال الحسن البصرى: قاس إبليس وهو أول من قاس، وقال محمد بن سيرين: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس ولا القمر إلا بالمقاييس، رواهما ابن جريج. ومعنى هذا: أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم، فرأى نفسه أشرف من آدم، فامتنع من السجود له مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود.

والقياس إذا كان مقابلاً بالنص كان فاسد الاعتبار ثم هو فاسد فى نفسه فإن الطين أنفع وخير من النار، فإن الطين فيه الرزانة والحلم والأناة والنمو والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والإحراق، ثم آدم شرفه الله بخلقه له بيده، ونفخه فيه من روحه، ولهذا أمر الملائكة بالسجود له كما قال: {إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}. استحق هذا من الله تعالى لأنه استلزم تنقصه لآدم وازدراؤه به وترفعه عليه مخالفة الأمر الإلهى ومعاندة الحق فى النص على آدم على التعيين، وشرع فى الاعتذار بما لا يجدى عنه شيئًا وكان اعتذاره أشد من ذنبه كما قال تعالى فى سورة سبحان: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذى كرمت علىّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}، وقال فى سورة الكهف: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} أى خرج عن طاعة الله عمدًا وعنادًا واستكبارًا عن امتثال أمره وما ذاك إلا لأنه خانه طبعه، ومادته الخبيثة أحوج ما كان إليها فإنه مخلوق من نار، كما قال وكما قررنا فى صحيح مسلم، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم).



قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى ومحمد بن جعفر، حدثنا عوف، حدثنى قسامة بن زهير، عن أبى موسى، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن، وبين ذلك).

ورواه أيضًا عن هوذة، عن عوف، عن قسامة بن زهير سمعت الأشعرى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك، والخبيث والطيب، وبين ذلك). وكذا رواه أبو داود والترمذى وابن حبان فى صحيحه من حديث عوف بن أبى جميلة الأعرابى، عن قسامة بن زهير المازنى البصرى، عن أبى موسى عبد الله بن قيس الأشعرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال الترمذى: حسن صحيح.

وقد ذكر السدى عن أبى مالك وأبى صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا: فبعث الله عز وجل جبريل فى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص منى أو تشيننى، فرجع ولم يأخذ، وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل، فعاذت منه، فأعاذها، فرجع، فقال، كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلطه، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به فَبلَّ التراب حتى عاد طينًا لازبا، واللازب هو الذى يلزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: {إنى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين} فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه، فخلقه بشرًا فكان جسدًا من طين أربعين سنة، من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر به فيضربه، فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فلذلك حين يقول: {من صلصال كالفخار} ويقول: لأمر ما خلقت ودخل من فيه وخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذى يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحى فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح فى رأسه عطس، فقالت الملائكة: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح فى عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت الروح فى جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، وذلك حين يقول الله تعالى: {خلق الإنسان من عجل}، {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين} وذكر تمام القصة.

ولبعض هذا السياق شاهد من الأحاديث، وإن كان كثير منه متلقى من الإسرائيليات. فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه، فجعل إبليس يطيف به، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك). وقال ابن حبان فى صحيحه: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما نفخ فى آدم فبلغ الروح رأسه عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له تبارك وتعالى: يرحمك الله).

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن حبيب، عن حفص، هو ابن عاصم بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبى هريرة، رفعه، قال: (لما خلق الله آدم عطس، فقال: الحمد لله، فقال له ربه: رحمك ربك يا آدم). وهذا الإسناد لا بأس به ولم يخرجوه. وقال عمر بن عبد العزيز: لما أمرت الملائكة بالسجود كان أول من سجد منهم إسرافيل فآتاه الله أن كتب القرآن فى جبهته. رواه ابن عساكر.

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا عمرو بن محمد، عن إسماعيل ابن رافع، عن المقبرى، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طينًا، ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا خلقه الله وصوره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار، قال: فكان إبليس يمر به فيقول له: لقد خُلقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه، فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه فعطس، فلقاه الله رحمة ربه، فقال الله: يرحمك ربك، ثم قال الله: يا آدم، اذهب إلى هؤلاء النفر فقل لهم السلام عليكم، فانظر ماذا يقولون، فجاء فسلم عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقال: يا آدم، هذا تحيتك وتحية ذريتك، قال: يا رب، وما ذريتى؟ قال: اختر يدى يا آدم، قال: اختار يمين ربى، وكلتا يدى ربى يمين، وبسط كفه، فإذا من هو كائن من ذريته فى كف الرحمن، فإذا رجال منهم أفواههم النور، فإذا رجل يعجب آدم نوره، قال: يا رب، من هذا؟ قال: ابنك داود، قال: يا رب، فكم جعلت له من العمر؟ قال: جعلت له ستين، قال: يا رب، فأتم له من عمرى حتى يكون له من العمر مائة سنة، ففعل الله ذلك وأشهد على ذلك، فلما نفد عمر آدم بعث الله ملك الموت، فقال آدم: أو لم يبق من عمرى أربعون سنة، قال له الملك: أو لم تعطها ابنك داود؟ فجحد ذلك فجحدت ذريته ونسى فنسيت ذريته).

جواد الفجر
07 May 2005, 02:25 PM
حكى السدى عن أبى صالح وأبى مالك، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة، أنهم قالوا: أخرج إبليس من الجنة واسكن آدم الجنة فكان يمشى فيها وحشى ليس له فيها زوج يسكن إليها فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولما خلقت؟ قالت: لتسكن إلىّ، فقالت له الملائكة، ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم كانت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شىء حى. وذكر محمد بن إسحاق عن ابن عباس: أنها خلقت من ضلعه الأقصر الأيسر وهو نائم ولأم مكانه لحما، ومصداق هذا فى قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} الآية، وفى قوله تعالى: {هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به} الآية، وسنتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.


وفى الصحيحين من حديث زائدة عن ميسرة الأشجعى، عن أبى حازم، عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج شىء فى الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرًا). لفظ البخارى.

جواد الفجر
07 May 2005, 02:31 PM
رغبة في قوله تعالى (()وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(آل عمران:133) ) ومحبة في نشر الخير
اقدم لكم سلسلة قصص الانبياء واسال الله العظيم ان يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم
اخوكم / ابو جهاد المكي
لا تنسوني من صالح دعائكم ....

جواد الفجر
07 May 2005, 02:33 PM
آدم عليه السلام في الجنة

وروى مسلم فى صحيحه من حديث أبى مالك الأشجعى، واسمه سعد بن طارق، عن أبى حازم سلمة بن دينار، عن أبى هريرة وأبو مالك، عن ربعى، عن حذيفة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم). وذكر الحديث بطوله، وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة فى الدلالة على أنها جنة المأوى وليست تخلو عن نظر.
وقال آخرون: بل الجنة التى أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد، لأنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة، ولأنه نام فيها وأخرج منها، ودخل عليه إبليس فيها، وهذا مما ينافى أن تكون جنة المأوى. وهذا القول محكى عن أُبى بن كعب وعبد الله بن عباس ووهب بن منبه وسفيان بن عيينة، واختاره ابن قتيبة فى المعارف والقاضى منذر بن سعيد البلوطى فى تفسيره وأفرد له مصنفا على حدة وحكاه عن أبى حنيفة الإمام وأصحابه، رحمهم الله، ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازى بن خطيب الرى فى تفسيره عن أبى القاسم البلخى وأبى مسلم الأصبهانى، ونقله القرطبى فى تفسيره عن المعتزلة والقدرية، وهذا القول هو نص التوراة التى بأيدى أهل الكتاب، وممن حكى الخلاف فى هذه المسألة: أبو محمد بن حزم فى الملل والنحل، وأبو محمد بن عطية فى تفسيره، وأبو عيسى الرمانى فى تفسيره.

وحكى عن الجمهور الأول وأبو القاسم الراغب والقاضى الماوردى فى تفسيره فقال: واختلف فى الجنة التى أسكناها، يعنى آدم وحواء، على قولين: أحدهما: أنها جنة الخلد، والثانى: جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء، وليست جنة الخلد التى جعلها دار جزاء، ومن قال بهذا اختلفوا على قولين: أحدهما: إنها فى السماء لأنه اهبطهما منها، وهذا قول الحسن. والثانى: أنها فى الأرض، لأنه امتحنهما فيها بالنهى عن الشجرة التى نهيا عنها دون غيرها من الثمار، وهكذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم، والله أعلم بالصواب من ذلك. هذا كلامه. فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة وأشعر كلامه أنه متوقف فى المسألة.

ولقد حكى أبو عبد الله الرازى فى تفسيره فى هذه المسألة أربعة أقوال: هذه الثلاثة التى أوردها الماوردى، ورابعها: الوقف، وحكى القول: بأنها فى السماء وليست جنة المأوى، عن أبى على الجبائى. وقد أورد أصحاب القول الثانى سؤالا يحتاج مثله إلى جواب فقالوا: لا شك أن الله سبحانه وتعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الإلهية، وأمره بالخروج عنها والهبوط منها، وهذا الأمر ليس من الأوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته، وإنما هو أمر قدرى لا يخالف ولا يمانع ولهذا قال: {اخرج منها مذءوما مدحورا}، وقال: {اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها}، وقال: {اخرج منها فإنك رجيم} والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة وأيَّا ما كان، فمعلوم أنه ليس له الكون قدرا فى المكان الذى طرد عنه، وأبعد منه، لا على سبيل الاستقرار، ولا على سبيل المرور والاجتياز، قالوا: ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس لآدم وخاطبه بقوله له: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}، وبقوله: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور} الآية، وهذا ظاهر فى اجتماعه معهما فى جنتهما، وقد أجيبوا عن هذا: بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما فى الجنة على سبيل المرور فيها لا على سبيل الاستقرار بها، أو أنه وسوس لهما وهو على باب الجنة، أو من تحت السماء، وفى الثلاثة نظر، والله أعلم.

ومما احتج به أصحاب هذه المقالة: ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد فى الزيادت عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن البصرى، عن يحيى بن ضمرة السعدى، عن أبى بن كعب، قال: إن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من عنب الجنة، فانطلق بنوه ليطلبوه له، فلقيتهم الملائكة، فقالوا: أين تريدون يا بنى آدم؟ فقالوا: إن أبانا اشتهى قطفًا من عنب الجنة، فقالوا لهم: ارجعوا فقد كفيتموه، فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه، وصلى عليه جبريل ومن خلفه من الملائكة، ودفنوه، وقالوا: هذه سنتكم فى موتاكم. وسيأتى الحديث بسنده وتمام لفظه، عند ذكر وفاة آدم عليه السلام، قالوا: فلولا أنه كان الوصول إلى الجنة التى كان فيها آدم التى اشتهى منها القطف ممكنا لما ذهبوا يطلبون ذلك، فدل على أنها فى الأرض لا فى السماء، والله تعالى أعلم.

قالوا: والاحتجاج بأن الألف واللام فى قوله: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} لم يتقدم عهد يعود عليه، فهو المعهود الذهنى مسلم، ولكن هو ما دل عليه سياق الكلام، فإن آدم خلق من الأرض، ولم ينقل أنه رفع إلى السماء، وخلق ليكون فى الأرض، وبهذا أعلم الرب الملائكة، حيث قال: {إنى جاعل فى الأرض خليفة}.

قالوا وهذا كقوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} فالألف واللام ليس للعموم، ولم يتقدم معهود لفظى، وإنما هى للمعهود الذهنى الذى دل عليه السياق، وهو البستان.

قالوا: وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء، قال الله تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك} الآية، وإنما كان فى السفينة حين استقر على الجودى ونضب الماء عن وجه الأرض، أمر أن يهبط إليها هو ومن معه مباركًا عليه وعليهم، وقال الله تعالى: {اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم} الآية، وقال تعالى: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} الآية، وفى الأحاديث واللغة من هذا كثير.

قالوا: ولا مانع، بل هو الواقع أن الجنة التى أسكنها آدم كانت مرتفعة عن سائر بقاع الأرض، ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور، كما قال تعالى: {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى}، أى لا يذل باطنك بالجوع، ولا ظاهرك بالعرى، {وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} أى لا يمس باطنك حر الظمأ، ولا ظاهرك حر الشمس، ولهذا قرن بين هذا وهذا، وبين هذا وهذا، لما بينهما من الملائمة، فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التى نهى عنها، اهبط إلى أرض الشقاء والتعب والنصب والكدر والسعى والنكد والابتلاء والاختبار والامتحان، واختلاف السكان دينًا وأخلاقًا وأعمالاً وقصودًا، وإرادات وأقوالاً وأفعالاً، كما قال تعالى: {ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين} ولا يلزم من هذا أنهم كانوا فى السماء، كما قال تعالى: {وقلنا من بعده لبنى إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا} ومعلوم أنهم كانوا فيها لم يكونوا فى السماء.

قالوا: وليس هذا القول مفرعًا على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم، ولا تلازم بينهما، فكل من حكى عنه هذا القول من السلف وأكثر الخلف ممن يثبت وجود الجنة والنار اليوم، كما دلت عليه الآيات والأحاديث الصحاح، كما سيأتى إيرادها فى موضعها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

جواد الفجر
07 May 2005, 02:35 PM
خروج آدم عليه السلام من الجنة


وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها} أى عن الجنة {فأخرجهما مما كانا فيه} أى من النعيم والنضرة والسرور، إلى دار التعب والكد والنكد، وذلك بما وسوس لهما وزينه فى صدورهما، كما قال تعالى: {فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} يقول: ما نهاكما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، أى ولو أكلتما منها لصرتما كذلك {وقاسمهما} أى حلف لهما على ذلك {إنى لكما لمن الناصحين} كما قال فى الآية الأخرى: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} أى هل أدلك على الشجرة التى إذا أكلت منها حصل لك الخلد فيما أنت فيه من النعيم، واستمررت فى ملك لا يبيد ولا ينقضى، وهذا من التغرير والتزوير والإخبار بخلاف الواقع.

والمقصود أن قوله شجرة الخلد التى إذا أكلت منها خلدت، وقد تكون هى الشجرة التى قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، حدثنا شعبة، عن أبى الضحاك سمعت أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يقطعها، شجرة الخلد). وكذا رواه أيضا عن غندر، وحجاج عن شعبة، ورواه أبو داود الطيالسى فى مسنده عن شعبة أيضًا به. قال غندر: قلت لشعبة: هى شجرة الخلد؟ :قال ليس فيها هى. تفرد به الإمام أحمد.

وقوله: {فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة}، كما قال فى (طه): {[فأكلا] منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان [عليهما] من ورق الجنة}، وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم، وهى التى حدته على أكلها، والله أعلم.

وعليه يحمل الحديث الذى رواه البخارى: حدثنا بشر بن محمد، حدثنا عبد الله، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه: (لولا بنوا إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها)، تفرد به من هذا الوجه، وأخرجاه فى الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبى هريرة به. ورواه أحمد ومسلم عن هارون بن معروف، عن أبى وهب، عن عمرو بن حارث، عن أبى يونس، عن أبى هريرة به.

وفى كتاب التوراة التى بين أيدى أهل الكتاب: أن الذى دل حواء على الأكل من الشجرة: هى الحية، وكانت من أحسن الأشكال وأعظمها، فأكلت حواء عن قولها، وأطعمت آدم عليه السلام. وليس فيها ذكر لإبليس، فعند ذلك انفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان، فوصلا من ورق التين، وعملا مئازر، وفيها: أنهما كانا عريانين، وكذا قال وهب بن منبه: كان لباسهما نورًا على فرجه وفرجها.

وهذا الذى فى هذه التوراة التى بأيديهم غلط منهم، وتحريف وخطأ فى التعريب، فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يكاد يتيسر لكل أحد، ولاسيما ممن لا يعرف كلام العرب جيدا، ولا يحيط علمًا بفهم كتابه أيضًا، فلهذا وقع فى تعريبهم لها خطأ كثير لفظًا ومعنى، وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس فى قوله: {ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} فهذا لا يرد لغيره من الكلام، والله تعالى أعلم.

وقال ابن أبى حاتم: حدثنا على بن الحسن بن إسكاب، حدثنا على بن عاصم، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبى بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً، كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد فى الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن عز وجل: يا آدم، منى تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء). وقال الثورى: عن ابن أبى ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} ورق التين، وهذا إسناد صحيح إليه، وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب، وظاهر الآية يقتضى أعم من ذلك، وبتقدير تسليمه فلا يضر، والله تعالى أعلم.

وروى الحافظ بن عساكر من طريق محمد بن إسحاق، عن الحسن بن ذكوان، عن الحسن البصرى، عن أبى بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أباكم آدم كان كالنخلة السحوق، ستين ذراعًا، كثير الشعر، موارى العورة، فلما أصاب الخطيئة فى الجنة بدت له سوأته، فخرج من الجنة، فلقيته شجرة، فأخذت بناصيته، فناداه ربه: أفرارا منى يا آدم؟ قال بل حياء منك، والله يا رب مما جئت به). ثم رواه من طريق سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن يحيى بن ضمرة، عن أبى بن كعب، عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه. وهذا أصح، فإن الحسن لم يدرك أُبيًا. ثم أورده أيضا من طريق خيثمة بن سليمان الإطرابلسى، عن محمد بن عبد الوهاب أبى قرصافة العسقلانى، عن آدم بن أبى إياس، عن شيبان، عن قتادة، عن أنس مرفوعًا بنحوه. {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وهذا اعتراف، ورجوع إلى الإنابة، وتذلل، وخضوع، واستكانة، وافتقار إليه تعالى فى الساعة الراهنة، وهذا السر ما سرى فى أحد من ذريته إلا كانت عاقبته إلى خير فى دنياه وأخراه {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين} وهذا خطاب لآدم وحواء وإبليس، قيل: والحية معهم، أمروا أن يهبطوا من الجنة فى حال كونهم متعادين متحاربين، وقد يستشهد لذكر الحية معهما بما ثبت فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه أمر بقتل الحيات وقال: (ما سالمناهن منذ حاربناهن).

جواد الفجر
07 May 2005, 02:37 PM
نزول آدم وحواء الى الأرض


وقوله فى سورة طه: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو} هو أمر لآدم وإبليس، واستتبع آدم حواء، وإبليس الحية، وقيل: هو أمر لهم بصيغة التثنية كما فى قوله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} والصحيح: أن هذا لما كان الحاكم لا يحكم إلا بين اثنين مدع ومدعى عليه. وقال: وكنا لحكمهم شاهدين. وأما تكريره الإهباط فى سورة البقرة فى قوله: {وقلنا اهبطوا} منها جميعا {بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعًا فأما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فقال بعض المفسرين: المراد بالإهباط الأول: الهبوط من الجنة إلى السماء الدنيا، وبالثانى: من السماء الدنيا إلى الأرض، وهذا ضعيف، لقوله فى الأول: {قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين} فدل على أنهم اهبطوا إلى الأرض بالإهباط الأول، والله أعلم.


والصحيح: أنه كرره لفظًا وإن كان واحدًا، وناط مع كل مرة حكمًا، فناط بالأول عداوتهم فيما بينهم، وبالثانى الاشتراط عليهم، أن من تبع هداه الذى ينزله عليهم بعد ذلك فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقى، وهذا الأسلوب فى الكلام له نظائر فى القرآن الكريم.

وروى الحافظ ابن عساكر عن مجاهد قال: أمر الله ملكين أن يخرجا آدم وحواء من جواره، فنزع جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه، وتعلق به غصن، فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة، فنكس رأسه يقول: العفو العفو، فقال الله: فرارا منى؟ قال: بل حياء منك يا سيدى. وقال الأوزاعى عن حسان، هو ابن عطية: مكث آدم فى الجنة مائة عام. وفى رواية: ستين عاما، وبكى على الجنة سبعين عاما، وعلى خطيئته سبعين عاما، وعلى ولده حين قُتل أربعين عاما، رواه ابن عساكر.

وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا جرير، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: أهبط آدم، عليه السلام، إلى أرض يقال له: دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان. رواه ابن أبى حاتم أيضا. وقال السدى: نزل آدم بالهند، ونزل معه بالحجر الأسود، وبقبضة من ورق الجنة، فبثه فى الهند، فنبتت شجرة الطيب هناك.

وعن ابن عمر، قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة. رواه ابن أبى حاتم أيضا. وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرنى عوف، عن قسامة بن زهير، عن أبى موسى الأشعرى، قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، علمه صنعة كل شىء، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير. وقال الحاكم فى مستدركه: أنبأنا أبو بكر بن بالويه، عن محمد بن أحمد بن النضر، عن معاوية بن عمر، عن زائدة، عن عمار بن أبى معاوية البجلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وفى صحيح مسلم من حديث الزهرى، عن الأعرج، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها). وفى الصحيح من وجه آخر: (وفيه تقوم الساعة). وقال أحمد: حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعى، عن أبى عمار، عن عبد الله بن فروخ، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة)، على شرط مسلم.

فأما الحديث الذى رواه ابن عساكر من طريق أبى القاسم البغوى: حدثنا محمد بن جعفر الوركانى، حدثنا سعيد بن ميسرة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هبط آدم وحواء عريانين جميعًا، عليهما ورق الجنة، فأصابه الحر حتى قعد يبكى، ويقول لها: يا حواء، قد أذانى الحر، قال: فجاءه جبريل بقطن، وأمرها أن تغذل، وعلمها، وأمر آدم بالحياكة، وعلمه أن ينسج، وقال: كان آدم لم يجامع امرأته فى الجنة حتى هبط منها، للخطيئة التى أصابتهما، بأكلهما من الشجرة، قال: وكان كل واحد منهما ينام على حدة، ينام أحدهما فى البطحاء، والآخر من ناحية أخرى، حتى أتاه جبريل، فأمره أن يأتى أهله، قال: وعلمه كيف يأتيها، فلما أتاها جاءه جبريل، فقال: كيف وجدت امرأتك، قال: صالحة). فإنه حديث غريب، ورفعه منكر جدًا، وقد يكون من كلام بعض السلف. وسعيد بن ميسرة هذا هو أبو عمران البكرى البصرى، قال فيه البخارى: منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروى الموضوعات، وقال ابن عدى: مظلم الأمر. وقوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} قيل: هى قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} روى هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبى العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وخالد بن معدان وعطاء الخراسانى وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال ابن أبى حاتم: حدثنا على بن الحسين بن إشكاب، حدثنا على بن عصام، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبى بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدى إلى الجنة؟ قال: نعم)، فذلك قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه}، وهذا غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.

وقال ابن أبى نجيح عن مجاهد قال: الكلمات اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسى فتب علىّ إنك أنت التواب الرحيم).

وروى الحاكم فى مستدركه من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} قال: قال آدم: يا رب، ألم تخلقنى بيدك؟ قيل له: بلى، ونفخت فى من روحك؟ قيل له: بلى، وعطست فقلت: يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبت على أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى، قال: أفرأيت إن تبت هل أنت راجعى إلى الجنة؟ قال: نعم. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وروى الحاكم أيضًا والبيهقى وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب، أسألك بحق محمد أن غفرت لى، فقال الله: فكيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد؟ فقال: يا رب، لأنك لما خلقتنى بيدك، ونفخت فىّ من روحك، رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلىّ، وإذ سألتنى بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك). قال البيهقى: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه، وهو ضعيف، والله أعلم. وهذه الآية كقوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}.

جواد الفجر
07 May 2005, 02:39 PM
قصة آدم عليه السلام في الارض


وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويعلى ومحمد ابنا عبيد، قالوا: حدثنا الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى، يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلى النار). ورواه مسلم من حديث وكيع وأبى معاوية عن الأعمش به. ثم لما أسكن آدم الجنة التى أسكنها، سواء كانت فى السماء أو فى الأرض على ما تقدم من الخلاف فيه، أقام بها هو وزوجته حواء عليهما السلام يأكلان منها رغدا حيث شاءا، فلما أكلا من الشجرة التى نهيا عنها، سلبا ما كانا فيه من اللباس واهبطا إلى الأرض. وقد ذكرنا الاختلاف فى مواضع هبوطه منها.
واختلفوا فى مقدار مقامه فى الجنة، فقيل: بعض يوم من أيام الدنيا. وقد قدمنا ما رواه مسلم عن أبى هريرة مرفوعًا. وخلق آدم فى آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة، وتقدم أيضا حديثه عنه: وفيه: يعنى يوم الجمعة خلق آدم، وفيه أخرج منها، فإن كان اليوم الذى خلق فيه فيه أخرج. وقلنا: إن الأيام الستة كهذه الأيام، فقد لبث بعض يوم من هذه، وفى هذا نظر، وإن كان إخراجه فى غير اليوم الذى خلق فيه، أو قلنا: بأن تلك الأيام مقدارها ستة آلاف سنة، كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد والضحاك، واختاره ابن جرير، فقد لبث هناك مدة طويلة.

قال ابن جرير: ومعلوم أنه خلق فى آخر ساعة من يوم الجمعة، والساعة منه ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فمكث مصورا طينا قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين سنة، وأقام فى الجنة قبل أن يهبط ثلاثًا وأربعين سنة وأربعة أشهر، والله تعالى أعلم. وقد روى عبد الرزاق عن هشام بن حسان، عن سوار خبر عطاء بن أبى رباح: أنه كان لما اهبط رجلاه فى الأرض ورأسه فى السماء، فحطه الله إلى ستين ذراعا، وقد روى عن ابن عباس نحوه، وفى هذا نظر، لما تقدم من الحديث المتفق على صحته عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن). وهذا يقتضى أنه خلق كذلك لا أطول من ستين ذراعا، وأن ذريته لم يزالوا يتناقص خلقهم حتى الآن.

وذكر ابن جرير عن ابن عباس، إن الله قال: يا آدم، إن لى حرمًا بحيال عرشى، فانطلق فابن لى فيه بيتا فطف به كما تطوف ملائكتى بعرشى، وأرسل الله له ملكًا فعرفه مكانه وعلمه المناسك، وذكر أن موضع كل خطوة خطاها آدم صارت قرية بعد ذلك.

وعنه أن أول طعام أكله آدم فى الأرض: أن جاءه جبريل بسبع حبات من حنطة، فقال: ما هذا؟ قال: هذا من الشجرة التى نهيت عنها فأكلت منها، فقال: وما أصنع بهذا؟ قال: ابذره فى الأرض، فبذره، وكان كل حبة منها زنتها أزيد من مائة ألف، فنبتت، فحصده، ثم درسه، ثم ذراه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، فأكله بعد جهد عظيم وتعب ونكد، وذلك قوله تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}.

وكان أول كسوتهما من شعر الظأن، جزاه ثم غزلاه، فنسج آدم له جبة ولحواء درعًا وخمارًا.

واختلفوا: هل ولد لهما بالجنة شىء من الأولاد؟ فقيل: لم يولد لهما إلا فى الأرض، وقيل: بل ولد لهما فيها، فكان قابيل وأخته ممن ولد بها، والله أعلم.

وذكروا أنه كان يولد له فى كل بطن ذكر وأنثى، وأمر أن يزوج كل ابن أخت أخيه التى ولدت معه، والآخر بالأخرى، وهلم جرًّا، ولم يكن تحل أخت لأخيها الذى ولدت معه.

جواد الفجر
07 May 2005, 02:40 PM
قصة قابيل وهابيل

قال الله تعالى: {واتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى ما أنا بباسط يدى إليك لأقتلك إنى أخاف الله رب العالمين إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخى فأصبح من النادمين} قد تكلمنا على هذه القصة فى سورة المائدة فى التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد.

ولنذكر هنا ملخص ما ذكره أئمة السلف فى ذلك: فذكر السدى عن أبى مالك وأبى صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الأخرى، وأن هابيل أراد أن يتزوج بأخت قابيل، وكان أكبر من هابيل، وأخت هابيل أحسن، فأراد هابيل أن يستأثر بها على أخيه، وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قربانا، وذهب آدم ليحج إلى مكة، واستحفظ السماوات على بنيه، فأبين والأرضين والجبال فأبين، فتقبل قابيل بحفظ ذلك. فلما ذهب قربا قربانهما، فقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من ردىء زرعه، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختى، فقال: إنما يتقبل الله من المتقين. وروى عن ابن عباس من وجوه أخر، وعن عبد الله بن عمرو، وقال عبد الله بن عمرو: وأيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط إليه يده.

وذكر أبو جعفر الباقر: أن آدم كان مباشرا لتقربهما القربان، والتقبل من هابيل دون قابيل، فقال قابيل لآدم: إنما تقبل منه لأنك دعوت له، ولم تدع لى، وتوعد أخاه فيما بينه وبينه، فلما كان ذات ليلة أبطأ هابيل فى الرعى، فبعث آدم أخاه قابيل لينظر ما أبطأ به، فلما ذهب إذا هو به، فقال له: تقبل منك ولم يتقبل منى، فقال: إنما يتقبل الله من المتقين، فغضب قابيل عندها وضربه بحديدة كانت معه فقتله، وقيل إنه: إنما قتله بصخرة رماها على رأسه وهو نائم فشدخته، وقيل: بل خنقه خنقا شديدا وعضا كما تفعل السباع فمات، والله أعلم.

وقوله له لما توعده بالقتل: {لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى ما أنا بباسط يدى إليك لأقتلك إنى أخاف الله رب العالمين} دل على خلق حسن وخوف من الله تعالى وخشية منه، وتورع أن يقابل أخاه بالسوء الذى أراد منه أخوه مثله. ولهذا ثبت فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول فى النار)، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه). وقوله: {إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين} أى إنى أريد ترك مقاتلتك، وإن كنت أشد منك وأقوى، إذ قد عزمت على ما عزمت عليه أن تبوء بإثمى وإثمك، أى تتحمل إثم قتلى مع ما لك من الآثام المتقدمة قبل ذلك. قاله مجاهد والسدى وابن جرير وغير واحد. وليس المراد أن آثام المقتول تتحول بمجرد قتله إلى القاتل، كما قد توهمه بعض، قال: فإن ابن جرير حكى الإجماع على خلاف ذلك.

وأما الحديث الذى يورده بعض من لا يعلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ترك القاتل على المقتول من ذنب). فلا أصل له، ولا يعرف فى شىء من كتب الحديث بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف أيضًا، ولكن قد يتفق فى بعض الأشخاص يوم القيامة يطالب المقتول القاتل فتكون حسنات القاتل لا تفى بهذه الظلمة، فتحول من سيئات المقتول إلى القاتل كما ثبت به الحديث الصحيح فى سائر المظالم، والقتل من أعظمها، والله أعلم، وقد حررنا هذا كله فى التفسير ولله الحمد.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذى عن سعد بن أبى وقاص، أنه قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشى، والماشى خير من الساعى)، قال: أفرأيت إن دخل علىّ بيتى فبسط يده إلىّ ليقتلنى، قال: (كن كابن آدم). ورواه ابن مردويه عن حذيفة بن اليمان مرفوعًا، وقال: (كن كخير ابنى آدم)، وروى مسلم وأهل السنن إلا النسائى عن أبى ذر نحو هذا.

وأما الآخر فقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل). ورواه الجماعة سوى أبى داود من حديث الأعمش به. وهكذا روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وإبراهيم النخعى أنهما قالا مثل هذا سواء. وبجبل قاسيون شمالى دمشق مغارة يقال لها: مغارة الدم، مشهورة بأنها المكان الذى قتل قابيل أخاه هابيل عندها، وذلك مما تلقوه عن أهل الكتاب، فالله أعلم بصحة ذلك، وقد ذكر الحافظ ابن عساكر فى ترجمة أحمد بن كثير، وقال: إنه كان من الصالحين، أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهابيل، وأنه استحلف هابيل أن هذا دمه فحلف له، وذكر أنه سأل الله تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدعاء فأجابه إلى ذلك، وصدقه فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: إنه وأبا بكر وعمر يزورون هذا المكان فى كل يوم خميس، وهذا منام لو صح عن أحمد ابن كثير هذا لم يترتب عليه حكم شرعى، والله أعلم.

وقوله تعالى: {فبعث الله غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخى فأصبح من النادمين} ذكر بعضهم أنه لما قتله حمله على ظهره سنة، وقال آخرون: حمله مائة سنة، ولم يزل كذلك حتى بعث الله غرابين. قال السدى بإسناده عن الصحابة: أخوين، فتقاتلا، فقتل أحدهما الآخر، فلما قتله عمد إلى الأرض يحفر له فيها، ثم ألقاه ودفنه وواراه، فلما رآه يصنع ذلك، قال: يا ويلتى، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخى؟ ففعل مثل ما فعل الغراب، فواراه ودفنه.

وذكر أهل التواريخ والسير: أن آدم حزن على ابنه هابيل حزنًا شديدًا، وأنه قال فى ذلك شعرا وهو قوله فيما ذكره ابن جرير عن ابن حميد:

تغيرت البلاد ومن عليها

تغيــــــر كـــل ذى لــــون وطعـــم



فوجه الأرض مغبر قبيح

وقــــل بشاشـــــة الوجــــه المليـــح

فأجيب آدم:

أبا هابيل قد قتلا جميعا

وجــاء بشـــرة قـد كــان منهـــا



وصار الحى كالميت الذبيح

علـــى خـــوف فجابهــا يصيــح

وهذا الشعر فيه نظر. وقد يكون آدم عليه السلام قال كلامًا يتحزن به بلغته، فألفه بعضم إلى هذا، وفيه أقوال، والله أعلم، وقد ذكر مجاهد: أن قابيل عوجل بالعقوبة يوم قتل أخاه، فعلقت ساقه إلى فخذه، وجعل وجهه إلى الشمس كيفما دارت، تنكيلا به وتعجيلا لذنبه وبغيه وحسده لأخيه لأبويه، وقد جاء فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته فى الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه فى الآخرة، من البغى، وقطيعة الرحم).

والذى رأيته فى الكتاب الذى بأيدى أهل الكتاب الذين يزعمون أنه التوراة: أن الله عز وجل أجله وأنظره، وأنه سكن فى أرض نود فى شرقى عدن وهم يسمونه قنين، وأنه ولد له خنوخ، ولخنوخ عندر، ولعندر محوايل، ولمحوايل متوشيل، ولمتوشيل لامك، وتزوج هذا امرأتين: (عدا وصلا)، فولدت (عدا) ولدا اسمه أبل، وهو أول من سكن القباب واقتنى المال، وولدت أيضًا نوبل، وهو أول من أخذ فى ضرب الوَنج والصنج، وولدت (صلا) ولدًا اسمه توبلقين، وهو أول من صنع النحاس والحديد، وبنتا اسمها نعمى وفيها أيضًا: أن آدم طاف على امرأته، فولدت غلامًا ودعت اسمه شيث، وقالت: من أجل أنه قد وهب لى خلفا من هابيل الذى قتله قابيل، وولد (لشيث) أنوش، قالوا: وكان عمر آدم يوم ولد له (شيث) مائة وثلاثين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة، وكان عمر شيث يوم ولد له (أنوش) مائة وخمسًا وستين، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وسبع سنين، وولد له بنون وبنات غير (أنوش)، فولد (لأنوش) قينان، وله من العمر تسعون سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وخمس عشرة سنة، وولد له بنون وبنات، فلما كان عمر (قينان) سبعين سنة ولد له (مهلاييل)، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وأربعين سنة، وولد له بنون وبنات، فلما كان لمهلاييل من العمر خمس وستون سنة ولد له يرد، وعاش بعد ذلك ثمانمائة وثلاثين سنة، وولد له بنون وبنات، فلما كان (ليرد) مائة سنة واثنتان وستون سنة ولد له (خنوخ)، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة، وولد له بنون وبنات، فلما كان (لخنوخ) خمس وستون سنة ولد له (متوشلح)، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة، وولد له بنون وبنات، فلما كان (لمتوشلح) مائة وسبع وثمانون سنة ولد له (لامك)، وعاش بعد ذلك سبعمائة واثنين وثمانين سنة، وولد له بنون وبنات، فلما كان (للامك) من العمر مائة واثنتان وثمانون سنة ولد له (نوح)، وعاش بعد ذلك خمسمائة وخمسا وتسعين سنة، وولد له بنون وبنات، فلما كان لنوح خمسمائة سنة، ولد له بنون (سام وحام ويافث)، هذا مضمون ما فى كتابهم صريحًا.

جواد الفجر
07 May 2005, 02:42 PM
وفاة آدم عليه السلام


وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير فى تاريخه عن بعضهم: أن حواء ولدت لآدم أربعين ولدا فى عشرين بطنًا، قاله ابن إسحاق وسماهم، والله تعالى أعلم، وقيل: مائة وعشرين بطنًا فى كل واحد ذكر وأنثى، أولهم: قابيل وأخته قليما، وآخرهم: عبد المغيث وأخته أم المغيث، ثم انتشر الناس بعد ذلك وكثروا وامتدوا فى الأرض ونموا، كما قال الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} الآية.
وقد ذكر أهل التاريخ: أن آدم عليه السلام لم يمت حتى رأى من ذريته من أولاده وأولاد أولاده أربعمائة ألف نسمة، والله أعلم. وقال تعالى: {هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون} الآيات، فهذا تنبيه أولا بذكر آدم ثم استطرد إلى الجنس، وليس المراد بهذا ذكر آدم وحواء، بل لما جرى ذكر الشخص استطرد إلى الجنس، كما فى قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين}، وقال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} ومعلوم أن رجوم الشياطين ليست هى أعيان مصابيح السماء، وإنما استطرد من شخصها إلى جنسها.

فأما الحديث الذى رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عمر بن إبراهيم، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحى الشيطان وأمره).

وهكذا رواه الترمذى وابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه فى تفاسيرهم عند هذه الآية وأخرجه الحاكم فى مستدركه كلهم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الترمذى: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم. ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه، فهذه علة قادحة فى الحديث أنه روى موقوفًا على الصحابى، وهذا أشبه، والظاهر أنه تلقاه من الإسرائيليات. وهكذا روى موقوفًا على ابن عباس.

والظاهر أن هذا متلقى عن كعب الأحبار ودونه، والله أعلم، وقد فسر الحسن البصرى هذه الآيات بخلاف هذا، فلو كان عنده عن سمرة مرفوعًا لما عدل عنه إلى غيره، والله أعلم. وأيضًا فالله تعالى إنما خلق آدم وحواء ليكونا أصل البشر، وليبث منهما رجالاً كثيرا ونساء، فكيف كانت حواء لا يعيش لها ولد كما ذكر فى هذا الحديث إن كان محفوظا؟ والمظنون بل المقطوع به: أن رفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم خطأ، والصواب وقفه، والله أعلم، وقد حررنا هذا فى كتابنا التفسير ولله الحمد.

ثم قد كان آدم وحواء أتقى لله مما ذكر عنهما فى هذا، فإن آدم أبو البشر الذى خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شىء، وأسكنه جنته. وقد روى ابن حبان فى صحيحه عن أبى ذر قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا). قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير)، قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: (آدم)، قلت: يا رسول الله، نبى مرسل؟ قال: (نعم، خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلاً).

وقال الطبرانى: حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهانى، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا نافع بن هرمز، عن عطاء بن أبى رباح، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبريل، وأفضل النبيين آدم، وأفضل الأيام يوم الجمعة، وأفضل الشهور شهر رمضان، وأفضل الليالى ليلة القدر، وأفضل النساء مريم بنت عمران)، وهذا إسناد ضعيف، فإن نافعا أبا هرمز كذبه ابن معين، وضعفه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم وابن حبان وغيرهم، والله أعلم.

وقال كعب الأحبار: ليس أحد فى الجنة له لحية إلا آدم، لحيته سوداء إلى سرته، وليس أحد يكنى فى الجنة إلا آدم، كنيته فى الدنيا أبو البشر، وفى الجنة أبو محمد. وقد روى ابن عدى من طريق سبح بن أبى خالد، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، مرفوعًا: (أهل الجنة يدعون بأسمائهم إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد). ورواه ابن عدى أيضًا من حديث على بن أبى طالب، وهو ضعيف من كل وجه، والله أعلم.

وفى حديث الإسراء الذى فى الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بآدم وهو فى السماء الدنيا، قال له: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح، قال: وإذا عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى، فقلت: يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا آدم، وهؤلاء نسم بنيه، فإذا نظر قبل أهل اليمين وهم أهل الجنة ضحك، وإذا نظر قبل أهل الشمال وهم أهل النار بكى)، هذا معنى الحديث. وقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان، عن الحسن، قال: كان عقل آدم مثل عقل جميع ولده.

وقال بعض العلماء فى قوله صلى الله عليه وسلم : (فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطى شطر الحسن). قالوا: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام، وهذا مناسب، فإن الله خلق آدم وصوره بيده الكريمة، ونفخ فيه من روحه، فما كان ليخلق إلا أحسن الأشباه. وقد روينا عن عبد الله بن عمر وابن عمرو أيضًا موقوفًا ومرفوعًا: إن الله تعالى لما خلق الجنة قالت الملائكة: يا ربنا، اجعل لنا هذه، فإنك خلقت لبنى آدم الدنيا، يأكلون فيها ويشربون؟ فقال الله تعالى: وعزتى وجلالى لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدى كمن قلت له: كن فكان. وقد ورد الحديث المروى فى الصحيحين وغيرهما من طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم على صورته)، وقد تكلم العلماء على هذا الحديث، فذكروا فيه مسالك كثيرة، ليس هذا موضع بسطها، والله أعلم.

وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث

ومعنى شيث: هبة الله، وسمياه بذلك لأنهما رزقاه بعد أن قتل هابيل، قال أبو ذر فى حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله أنزل مائة صحيفة وأربع صحف، على شيث خمسين صحيفة)، قال محمد بن إسحاق: ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى ابنه شيث، وعلمه ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادات تلك الساعات، وأعلمه بوقوع الطوفان بعد ذلك، قال: ويقال: إن أنساب بنى آدم اليوم كلها تنتهى إلى شيث، وسائر أولاد آدم غيره انقرضوا وبادوا، والله أعلم.

ولما توفى آدم عليه السلام، وكان ذلك يوم الجمعة، جاءته الملائكة بحنوط وكفن من عند الله عز وجل من الجنة، وعزوا فيه ابنه ووصيه شيثا عليه السلام، قال ابن إسحاق: وكسفت الشمس والقمر سبعة أيام بلياليهن، وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن يحيى، هو ابن ضمرة السعدى، قال: رأيت شيخًا بالمدينة تكلم فسألت عنه، فقالوا: هذا أُبى بن كعب، فقال: إن آدم لما حضره الموت، قال لبنيه: أى بنى، إنى أشتهى من ثمار الجنة، قال: فذهبوا يطلبون له، فاستقبلتهم الملائكة ومعهم أكفانه وحنوطه ومعهم الفئوس، والمساحى، والمكاتل، فقالوا لهم: يا بنى آدم، ما تريدون وما تطلبون، أو ما تريدون وأين تطلبون؟ قالوا: أبونا مريض، واشتهى من ثمار الجنة، فقالوا لهم: ارجعوا فقد قضى أبوكم فجاءوا، فلما رأتهم حواء عرفتهم، فلاذت بآدم، فقال: إليك عنى، فإنى إنما أُتيت من قبلك، فخلى بينى وبين ملائكة ربى عز وجل، فقبضوه وغسلوه وكفنوه وحنظوه وحفروا له ولحدوه وصلوا عليه، ثم أدخلوه قبره فوضعوه فى قبره، ثم حثوا عليه، ثم قالوا: يا بنى آدم، هذه سنتكم. إسناد صحيح إليه، وروى ابن عساكر من طريق شيبان ابن فروخ، عن محمد بن زياد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كبرت الملائكة على آدم أربعا، وكبر أبى بكر على فاطمة أربعا، وكبر عمر على أبى بكر أربعا، وكبر صهيب على عمر أربعا).

جواد الفجر
07 May 2005, 02:44 PM
دفن آدم عليه السلام


قال ابن عساكر ورواه غيره عن ميمون فقال عن ابن عمر.
واختلفوا فى موضع دفنه: فالمشهور أنه دفن عند الجبل الذى اهبط منه فى الهند، وقيل: بجبل أبى قبيس بمكة، ويقال: إن نوحًا عليه السلام لما كان زمن الطوفان حمله هو وحواء فى تابوت فدفنهما ببيت المقدس، حكى ذلك ابن جرير. وروى ابن عساكر عن بعضهم أنه قال: رأسه عند مسجد إبراهيم ورجلاه عند صخرة بيت المقدس، وقد ماتت بعده حواء بسنة واحدة. واختلف فى مقدار عمره عليه السلام: فقدمنا فى الحديث عن ابن عباس وأبى هريرة مرفوعًا: أن عمره اكتتب فى اللوح المحفوظ ألف سنة، وهذا لا يعارضه ما فى التوارة من أنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة؛ لأن قولهم هذا مطعون فيه مردود إذا خالف الحق الذى بأيدينا مما هو المحفوظ عن المعصوم. وأيضا: فإن قولهم هذا يمكن الجمع بينه وبين ما فى الحديث، فإن ما فى التوراة إن كان محفوظًا محمول على مدة مقامه فى الأرض بعد الإهباط، وذلك تسعمائة وثلاثون سنة شمسية، وهى بالقمرية تسعمائة وسبع وخمسون سنة، ويضاف إلى ذلك ثلاث وأربعون سنة مدة مقامه فى الجنة قبل الإهباط، على ما ذكره ابن جرير وغيره، فيكون الجميع ألف سنة.

وقال عطاء الخراسانى: لما مات آدم بكت الخلائق عليه سبعة أيام، رواه ابن عساكر، فلما مات آدم عليه السلام قام بأعباء الأمر بعده ولده شيث عليه السلام، وكان نبيًا بنص الحديث الذى رواه ابن حبان فى صحيحه عن أبى ذر مرفوعًا: (أنه أنزل عليه خمسون صحيفة)، فلما حانت وفاته أوصى إلى ابنه أنوش فقام بالأمر بعده ثم بعده ولده قينن، ثم من بعده ابنه مهلاييل، وهو الذى يزعم الأعاجم من الفرس أنه ملك الأقاليم السبعة، وأنه أول من قطع الأشجار وبنى المدائن والحصون الكبار، وأنه هو الذى بنى مدينة بابل ومدينة السوس الأقصى، وأنه قهر إبليس وجنوده وشردهم عن الأرض إلى أطرافها وشعاب جبالها، وأنه قتل خلقا من مردة الجن والغيلان، وكان له تاج عظيم وكان يخطب الناس ودامت دولته أربعين سنة، فلما مات قام بالأمر بعده ولده يرد، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ولده خنوخ وهو إدريس عليه السلام على المشهور.

* * *

ويليه قصة ادريس عليه السلام

جواد الفجر
07 May 2005, 02:46 PM
إدريس عليه السلام

قال الله تعالى: {واذكر فى الكتاب إدريس أنه كان صديقًا نبيًا ورفعناه مكانًا عليًا} فإدريس، عليه السلام، قد أثنى الله عليه، ووصفه بالنبوة والصديقية، وهو خنوخ هذا، وهو فى عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره غير واحد من علماء النسب، وكان أول بنى آدم أعطى النبوة بعد آدم وشيث، عليهما السلام، وذكر ابن إسحاق: أنه أول من خط بالقلم، وقد أدرك من حياة آدم ثلاثمائة سنة وثمانى سنين، وقد قال طائفة من الناس: إنه المشار إليه فى حديث معاوية بن الحكم السلمى: لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخط بالرمل، فقال: (إنه كان نبى يخط به، فمن وافق خطه فذاك). ويزعم كثير من علماء التفسير والأحكام: أنه أول من تكلم فى ذلك ويسمونه هرمس الهرامسة، ويكذبون عليه أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من الأنبياء والعلماء والحكماء والأولياء، وقوله تعالى: {ورفعناه مكانا عليا} هو كما ثبت فى الصحيحين فى حديث الإسراء: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو فى السماء الرابعة).

وقد روى ابن جرير عن يونس، عن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف، قال: سأل ابن عباس كعبًا، وأنا حاضر، فقال له: ما قول الله تعالى لإدريس: {ورفعناه مكانا عليا} فقال كعب: أما إدريس، فإن الله أوحى إليه أنى أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بنى آدم، لعله من أهل زمانه، فأحب أن يزداد عملا، فأتاه خليل له من الملائكة، فقال: إن الله أوحى إلى كذا وكذا، فكلم ملك الموت حتى ازداد عملا، فحمله بين جناحيه، ثم صعد به إلى السماء، فلما كان فى السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرًا، فكلم ملك الموت فى الذى كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ قال: هو ذا على ظهرى، فقال ملك الموت: فالعجب بعثت، وقيل لى: اقبض روح إدريس فى السماء الرابعة، فجعلت أقول كيف أقبض روحه فى السماء الرابعة وهو فى الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك قول الله عز وجل: {ورفعناه مكانا عليا}.

ورواه ابن أبى حاتم عند تفسيرها، وعنده: فقال لذلك الملك: سل لى ملك الموت كم بقى من عمرى؟ فسأله وهو معه: كم بقى من عمره؟ فقال: لا أدرى حتى أنظر، فنظر، فقال: إنك لتسألنى عن رجل ما بقى من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك إلى تحت جناحه إلى إدريس، فإذا هو قد قبض وهو لا يشعر. وهذا من الإسرائيليات وفى بعضه نكارة. وقول ابن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله: {ورفعناه مكانا عليا} قال: إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى، إن أراد أنه لم يمت إلى الآن ففى هذا نظر، وإن أراد أنه رفع حيا إلى السماء ثم قبض هناك فلا ينافى ما تقدم عن كعب الأحبار، والله أعلم.

وقال العوفى عن ابن عباس فى قوله: {ورفعناه مكانا عليا} رفع إلى السماء السادسة فمات بها، وهكذا قال الضحاك. والحديث المتفق عليه من أنه فى السماء الرابعة أصح. وهو قول مجاهد وغير واحد. وقال الحسن البصرى: {ورفعناه مكانا عليا} قال: إلى الجنة، وقال قائلون: رفع فى حياة أبيه يرد بن مهلاييل، والله أعلم، وقد زعم بعضهم أن إدريس لم يكن قبل نوح بل فى زمان بنى إسرائيل.

قال البخارى: ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس: أن إلياس هو إدريس، واستأنسوا فى ذلك بما جاء فى حديث الزهرى عن أنس فى الإسراء: أنه لما مر به عليه السلام قال له: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح، ولم يقل كما قال آدم وإبراهيم: مرحبا بالنبى الصالح والابن الصالح، قالوا: فلو كان فى عمود نسبه لقال له كما قال له، وهذا لا يدل ولا بد، لأنه قد لا يكون الراوى حفظه جيدا، أو لعله قاله له على سبيل الهضم والتواضع، ولم ينتصب له فى مقام الأبوة، كما انتصب لآدم أبى البشر وإبراهيم الذى هو خليل الرحمن وأكبر أولى العزم بعد محمد، صلوات الله عليهم أجمعين.

* * *

جواد الفجر
07 May 2005, 02:48 PM
قصة نوح عليه السلام

هو: نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ، وهو إدريس، بن يرد بن مهلاييل بن قينن ابن أنوش بن شيث بن آدم أبى البشر عليه السلام، كان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، فيما ذكره ابن جرير وغيره، وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مائة وست وأربعون سنة، وكان بينهما عشرة قرون، كما قال الحافظ أبو حاتم بن حبان فى صحيحه حدثنا محمد بن عمر بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، سمعت أبا سلام سمعت أبا أمامة، أن رجلا قال: يا رسول الله، أنبى كان آدم؟ قال: (نعم مكلم)، قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: (عشرة قرون). قلت: وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه.

وفى صحيح البخارى عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. فإن كان المراد بالقرن مائة سنة كما هو المتبادر عند كثير من الناس فبينهما ألف سنة لا محالة، لكن لا ينفى أن يكون أكثر، باعتبار ما قيد به ابن عباس بالإسلام، إذ قد يكون بينهما قرون أخر متأخرة لم يكونوا على الإسلام، لكن حديث أبى أمامة يدل على الحصر فى عشرة قرون، وزادنا ابن عباس: أنهم كلهم كانوا على الإسلام، وهذا يرد قول من زعم من أهل التواريخ وغيرهم من أهل الكتاب أن قابيل وبنيه عبدوا النار، والله أعلم.

وإن كان المراد بالقرن الجيل من الناس كما فى قوله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح}، وقوله: {ثم أنشأنا من بعدهم قرونًا آخرين}، وقال تعالى: {وقرونا بين ذلك كثيرا}، وقال: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} وكقوله عليه السلام: (خير القرون قرنى) الحديث. فقد كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة. فعلى هذا يكون بين آدم ونوح ألوف من السنين، والله أعلم.

وبالجملة: فنوح عليه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عبدت الأصنام والطواغيت، وشرع الناس فى الضلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد، فكان أول رسول بُعث إلى أهل الأرض كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة، وكان قومه يقال لهم: بنو راسب، فيما ذكره ابن جبير وغيره.

واختلفوا فى مقدار سنه يوم بعث، فقيل: كان ابن خمسين سنة، وقيل: ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، وقيل: ابن أربعمائة وثمانين سنة، حكاها ابن جرير، وعزا الثالثة منها إلى ابن عباس.

وقد ذكر الله قصته، وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة، فى غير ما موضع من كتابه العزيز، ففى الأعراف ويونس وهود والأنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات واقتربت وأنزل فيه سورة كاملة، فقال فى سورة الأعراف: {لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره انى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك فى ضلال مبين قال يا قوم ليس بى ضلالة ولكنى رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه فى الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين}، وقال فى سورة يونس: {واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلىّ ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين}.

وقال تعالى فى سورة هود: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه إنى لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرًا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتانى رحمة من عنده فعميت علكيم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجرى إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكنى أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم إنى إذًا لمن الظالمين قالوا يا نوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربى لغفور رحيم وهى تجرى بهم فى موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء اقلعى وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعدًا للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين}.

جواد الفجر
07 May 2005, 02:51 PM
نوح عليه السلام مع قومه


أن الفساد لما انتشر فى الأرض وعم البلاء بعبادة الأصنام فيها، بعث الله عبده ورسوله نوحًا عليه السلام، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت فى الصحيحين من حديث أبى حيان، عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث الشفاعة، قال: (فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: ربى قد غضب غضبًا شديدًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهانى عن الشجرة فعصيت، نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل؟ فيقول: ربى قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسى نفسى)، وذكر تمام الحديث بطوله كما أورده البخارى فى قصة نوح.
فلما بعث الله نوحًا عليه السلام دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن لا يعبدوا معه صنما ولا تمثالاً ولا طاغوتًا، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته، كما قال تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين}، وقال فيه وفى إبراهيم: {وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكتاب} أى كل نبى من بعد نوح فمن ذريته، وكذلك إبراهيم قال الله تعالى: {ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، وقال تعالى: {واسئل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون}.

وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} ولهذا قال نوح لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}، وقال: {ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم}، وقال: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون}، وقال: {يا قوم إنى لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائى إلا فرارا وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فى آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إنى دعوتهم جهارا ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا} الآيات الكريمات، فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة فى الليل والنهار والسر والإجهار، بالترغيب تارة والترهيب أخرى، وكل هذا فلم ينجح فيهم، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام والأوثان، ونصبوا له العداوة فى كل وقت وأوان، وتنقصوه، وتنقصوا من آمن به، وتوعدوهم بالرجم والاخراج ونالوا منهم وبالغوا فى أمرهم: {قال الملأ من قومه} أى السادة الكبراء منهم، {إنا لنراك فى ضلال مبين قال يا قوم ليس بى ضلالة ولكنى رسول من رب العالمين} أى لست كما تزعمون من أنى ضال، بل على الهدى المستقيم، {رسول من رب العالمين}، أى الذى يقول للشىء كن فيكون، {أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون} وهذا شأن الرسول أن يكون بليغًا أى فصيحًا ناصحًا أعلم الناس بالله عز وجل، وقالوا له فيما قالوا: {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} تعجبوا أن يكون بشرًا رسولاً وتنقصوا بمن اتبعه ورأوهم أراذلهم.

وقد قيل: أنهم كانوا من أقياد الناس وهم ضعفاؤهم، كما قال هرقل، وهم أتباع الرسل، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق، وقولهم: {بادى الرأى} أى بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية، وهذا الذى رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه، رضى الله عنهم، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر، بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحا للصديق: (ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، غير أبى بكر فإنه لم يتلعثم)، ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضًا سريعة من غير نظر ولا روية، لأن أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة، رضى الله عنهم، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذى أراد أن ينص فيه على خلافته، فتركه وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضى الله عنه).

وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به: {وما نرى لكم علينا من فضل} أى لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزية علينا {بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون}، وهذا تلطف فى الخطاب معهم، وترفق بهم فى الدعوة إلى الحق، كما قال تعالى: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}.

وقال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن}، وهذا منه يقول لهم: {أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتانى رحمة من عنده} أى النبوة والرسالة، {فعميت عليكم} أى فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها، {أنلزمكموها} أى انغضبكم بها ونجبركم عليها {وأنتم لها كارهون} أى ليس لى فيكم حيلة والحالة هذه {ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجرى إلا على الله} أى لست أريد منكم أجرة على إبلاغى إياكم ما ينفعكم فى دنياكم وأخراكم إن أطلب ذلك إلا من الله الذى ثوابه خير لى وابقى مما تعطوننى أنتم، وقوله: {وما أنا بطارد الذين آمنوا أنهم ملاقوا ربهم ولكنى أراكم قوما تجهلون} كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك، وقال: {إنهم ملاقوا ربهم} أى فأخاف إن طردتهم أن يشكونى إلى الله عز وجل، ولهذا قال: {ويا قوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون} ولهذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين كعمار وصهيب وبلال وخباب وأشباههم نهاه الله عن ذلك، كما بيناه فى سورتى الأنعام والكهف: {ولا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك} أى بل أنا عبد رسول لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمنى به، ولا أقدر إلا على ما أقدرنى عليه، ولا أملك لنفسى نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله {ولا أقول للذين تزدرى أعينكم} يعنى من أتباعه {لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين} أى لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة، الله أعلم بهم، وسيجازيهم على ما فى نفوسهم، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، كما قالوا فى المواضع الأخر: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمى بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين}.

وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم، كما قال تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} أى ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم وكان كل ما نقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته، وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه وصاه فيما بينه وبينه أن لا يؤمن بنوح أبدا ما عاش، ودائمًا ما بقى، وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق، ولهذا قال: {ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا}، ولهذا قالوا: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين} أى إنما يقدر على ذلك الله عز وجل، فإنه الذى لا يعجزه شىء، ولا يكترثه أمر، بل هو الذى يقول للشىء كن فيكون {ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون} أى من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته، هو الذى يهدى من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، وهو العزيز الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة {وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} تسلية له عما كان منهم إليه {فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} وهذه تعزية لنوح عليه السلام فى قومه أنه لن يؤمن منهم إلامن قد آمن، أى لا يسوأنك ما جرى، فإن النصر قريب والنبأ عجيب {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون} وذلك أن نوحا عليه السلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم ورأى أنهم لا خير فيهم، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق من فعال ومقال، دعا عليهم دعوة غضب، فلبى الله دعوته، وأجاب طلبته.

قال الله تعالى: {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وقومه من الكرب العظيم}، وقال تعالى: {ونوحًا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم}، وقال تعالى: {قال رب إن قومى كذبون فافتح بينى وبينهم فتحًا ونجنى ومن معى من المؤمنين}، وقال تعالى: {فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر}، وقال تعالى: {قال رب انصرنى بما كذبون}، وقال تعالى: {مما خطيآتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفار} فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم، فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك، وهى السفينة العظيمة التى لم يكن لها نظير قبلها، ولا يكون بعدها مثلها، وقدم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره، وحل بهم بأسه الذى لا يرد عن القوم المجرمين أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه، فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، ولهذا قال: {ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} أى يستهزئون به استبعادًا لوقوع ما توعدهم به، قال: {إن تسخورا منا فانإ نسخر منكم كما تسخرون} أى نحن الذين نسخر منكم، ونتعجب منكم، فى استمراركم على كفركم وعنادكم، الذى يقتضى وقوع العذاب بكم، وحلوله عليكم {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} وقد كانت سجاياهم الكفر الغليظ والعناد البالغ فى الدنيا.

وهكذا فى الآخرة فإنهم يجحدون أيضًا أن يكون جاءهم رسول، كما قال البخارى: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يجىء نوح عليه السلام وأمته، فيقول الله عز وجل: هل بلغت؟ فيقول: نعم أى رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبى، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فتشهد أنه قد بلغ). وهو قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا}، والوسط العدل.

فهذه الأمة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق بأن الله قد بعث نوحًا بالحق، وأنزل عليه الحق، وأمره به، وأنه بلغه إلى أمته على أكمل الوجوه وأتمها، ولم يدع شيئًا مما ينفعهم فى دينهم إلا وقد أمرهم به، ولا شيئًا مما قد يضرهم، إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه، وهكذا شأن جميع الرسل، حتى أنه حذر قومه المسيح الدجال، وإن كان لا يتوقع خروجه فى زمانهم حذرًا عليهم وشفقة ورحمة بهم. كما قال البخارى: حدثنا عبدان، حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهرى، قال سالم: قال ابن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: (إنى لأنذركموه، وما من نبى إلا وقد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكنى أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبى لقومه: تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور).

وهذا الحديث فى الصحيحين أيضًا من حديث شيبان بن عبد الرحمن، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أحدثكم عن الدجال حديثا ما حدث به نبى قومه إنه أعور، وإنه يجىء معه بمثال الجنة والنار، والتى يقول عليها الجنة هى النار، وإنى أنذركم كما أنذر به نوح قومه)، لفظ البخارى.

جواد الفجر
07 May 2005, 03:00 PM
الفلك والطوفان


وقد قال بعض علماء السلف: لما استجاب الله له أمره أن يغرس شجرًا ليعمل منه السفينة، فغرسه وانتظره مائة سنة، ثم نجره فى مائة أخرى، وقيل: فى أربعين سنة، فالله أعلم. قال محمد بن إسحاق عن الثورى: وكان من خشب الساج، وقيل: من الصنوبر، وهو نص التوراة. قال الثورى: وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعًا، وعرضها خمسين ذراعًا، وأن يطلى ظاهرها وباطنها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤًا أزور يشق الماء، وقال قتادة: كان طولها ثلثمائة ذراع فى عرض خمسين ذراعا، وهذا الذى فى التوراة على ما رأيته.
وقال الحسن البصرى: ستمائة فى عرض ثلثمائة ذراع. وعن ابن عباس: ألف ومائتا ذراع فى عرض ستمائة ذراع، وقيل: كان طولها ألفى ذراع وعرضها مائة ذراع، قالوا كلهم: وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعا، وكانت ثلاث طبقات، كل واحدة عشر أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعليا للطيور، وكان بابها فى عرضها، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها، قال الله تعالى: {قال رب انصرنى بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا} أى بأمرنا لك، وبمرأى منا لصنعتك لها، ومشاهدتنا لذلك لنرشدك إلى الصواب فى صنعتها {فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون} فتقدم إليه بأمره العظيم العالى، أنه إذا جاء أمره وحل بأسه أن يحمل فى هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روح، ومن المأكولات وغيرها لبقاء نسلها، وأن يحمل معه أهله، أى أهل بيته {إلا من سبق عليه القول منهم} أى إلا من كان كافرًا فإنه قد نفذت فيه الدعوة التى لا ترد ووجب عليه حلول البأس الذى لا يرد، وأمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعاينه من العذاب العظيم الذى قد حتمه عليهم الفعال لما يريد، كما قدمنا بيانه قبل.

والمراد بالتنور عند الجمهور: وجه الأرض، أى نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التى هى محال النار. وعن ابن عباس: التنور عين فى الهند، وعن الشعبى بالكوفة، وعن قتادة بالجزيرة. وقال على بن أبى طالب: المراد بالتنور: فلق الصبح، وتنوير الفجر، أى إشراقه وضياؤه. أى عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين. وهذا قول غريب.

وقوله تعالى: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} هذا أمر بأن عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، وفى كتاب أهل الكتاب أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، ومما لا يؤكل زوجين ذكرا وأنثى، وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى فى كتابنا الحق: {اثنين} إن جعلنا ذلك مفعولاً به، وأما إن جعلناه توكيدًا لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافى، والله أعلم.

وذكر بعضهم ويروى عن ابن عباس: أن أول ما دخل من الطيور الدرة، وآخر ما دخل من الحيوانات الحمار، ودخل إبليس متعلقًا بذنب الحمار. وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنى الليث، حدثنى هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما حمل نوح فى السفينة من كل زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن، أو كيف تطمئن المواشى ومعنا الأسد، فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت فى الأرض، ثم شكوا الفأرة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا، فأوحى الله إلى الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه، فتخبأت الفأرة منها)، هذا مرسل. وقوله: {وأهلك إلا من سبق عليه القول} أى من استجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر، فكان منهم ابنه يام الذى غرق، كما سيأتى بيانه، {ومن آمن} أى واحمل فيها من آمن بك من أمتك، قال الله تعالى: {وما آمن معه إلا قليل} هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الأكيدة ليلاً ونهارًا بضروب المقال وفنون التلطفات والتهديد والوعيد تارة والترغيب والوعد أخرى.

وقد اختلف العلماء فى عدة من كان معه فى السفينة: فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفسًا معهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفسًا، وقيل: كانوا عشرة، وقيل: إنما كانوا نوحًا وبنيه الثلاثة، وكنائنه الأربع بامرأة يام الذى انخزل وانعزل وتسلل عن طريق النجاة، فما عدل إذ عدل، وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية، بل هى نص فى أنه قد ركب معه غير أهله طائفة ممن آمن به، كما قال: {ونجنى ومن معى من المؤمنين} وقيل: كانوا سبعة، وأما امرأة نوح وهى أم أولاده كلهم، وهم: حام، وسام، ويافث، ويام، وتسميه أهل الكتاب كعنان وهو الذى قد غرق وعابر، وقد ماتت قبل الطوفان، قيل: إنها غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها، وعند أهل الكتاب: أنها كانت فى السفينة، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك، أو أنها أنظرت ليوم القيامة، والظاهر الأول لقوله: {لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا}.

قال الله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلنى منزلاً مباركًا وأنت خير المنزلين} أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة، فنجاه بها، وفتح بينه وبين قومه، وأقر عينه ممن خالفه وكذبه، كما قال تعالى: {الذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} وهكذا يؤمر بالدعاء فى ابتداء الأمور أن يكون على الخير والبركة، وأن تكون عاقبتها محمودة، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر: {وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا} وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية: {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم} أى على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤه {إن ربى لغفور رحيم} أى وذو عقاب أليم مع كونه غفورًا رحيمًا، لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، كما أحل بأهل الأرض الذين كفروا به وعبدوا غيره.

قال الله تعالى: {وهى تجرى بهم فى موج كالجبال} وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطرًا لم تعهده الأرض قبله، ولا تمطره بعده، كان كأفواه القرب، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها، كما قال تعالى: {فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر} والدسر السائر {تجرى بأعيننا} أى بحفظنا وكلائتنا، وحراستنا، ومشاهدتنا لها، {جزاء لمن كان كفر}.

وقد ذكر ابن جرير وغيره: أن الطوفان كان فى ثالث عشر من شهر آب فى حساب القبط، وقال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية} أى السفينة {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض خمسة عشر ذراعا، وهو الذى عند أهل الكتاب. وقيل: ثمانين ذراعا، وعم جميع الأرض طولها والعرض، سهلها وحزنها وجبالها وقفارها ورمالها، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، ولا صغير ولا كبير.

قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان قد ملأوا السهل والجبل، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم تكن بقعة فى الأرض إلا ولها مالك وحائز، رواهما ابن أبى حاتم. {ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بنيهما الموج فكان من المغرقين} وهذا الابن هو: يام أخو سام وحام ويافث، وقيل: اسمه كنعان، وكان كافرًا عمل عملاً غير صالح، فخالف أباه فى دينه ومذهبه فهلك مع من هلك، هذا وقد نجا مع أبيه الأجانب فى النسب، لما كانوا موافقين فى الدين والمذهب {وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء اقلعى وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين} أى لما فرغ من أهل الأرض ولم يبق منها أحد ممن عبد غير الله عز وجل، أمر الله الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع أى تمسك عن المطر {وغيض الماء} أى نقص عما كان {وقضى الأمر} أى وقع بهم الذى كان قد سبق فى علمه وقدره من إحلاله بهم ما حل بهم {وقيل بعدًا للقوم الظالمين} أى نودى عليهم بلسان القدرة، بعدًا لهم من الرحمة والمغفرة، كما قال تعالى: {فكذبوه فأنجيناه والذين معه فى الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين}.

وقال تعالى: {فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين}، وقال تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين}، وقال تعالى: {فأنجيناه ومن معه فى الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن فى ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم}، وقال تعالى: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين}، وقال تعالى: {ثم أغرقنا الآخرين}، وقال: {ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابى ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}، وقال تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارًا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارًا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدو إلا فاجرا كفارا} وقد استجاب الله تعالى، وله الحمد والمنة، دعوته فلم يبق منهم عين تطرف.

وقد روى الإمامان أبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبى حاتم فى تفسيريهما من طريق يعقوب بن محمد الزهرى، عن قائد، مولى عبد الله بن أبى رافع، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبى ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فلو رحم الله من قوم نوح أحدًا لرحم أم الصبى). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مكث نوح عليه السلام فى قومه ألف سنة، يعنى إلا خمسين عامًا، وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعلها سفينة، ويمرون عليه ويسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة فى البر، كيف تجرى؟ قال: سوف تعلمون، فلما فرغ ونبع الماء وصار فى السكك، خشيت أم الصبى عليه وكانت تحبه حبا شديدا، خرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها، فغرقا، فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أم الصبى). وهذا حديث غريب، وقد روى عن كعب الأحبار ومجاهد وغير واحد شبيه لهذه القصة، وأحرى بهذا الحديث أن يكونا موقوفًا متلقى عن مثل كعب الأحبار، والله أعلم.

والمقصود: أن الله لم يبق من الكافرين ديارًا، فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج ابن عنق، ويقال: ابن عناق، كان موجودًا من قبل نوح إلى زمان موسى، ويقولون: كان كافرًا متمردًا جبارًا عنيدًا، ويقولون: كان لغير رشدة، بل ولدته أمه عنق بنت آدم من زنا، وإنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ويشويه فى عين الشمس، وإنه كان يقول لنوح وهو فى السفينة: ما هذه القصيعة التى لك؟ ويستهزئ به، ويذكرون: أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا، إلى غير ذلك من الهذيانات التى لولا أنها مسطرة فى كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها وركاكتها، ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول.

أما المعقول: فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره، وأبوه نبى الأمة وزعيم أهل الإيمان، ولا يهلك عوج بن عنق، ويقال: عناق، وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا، وكيف لا يرحم الله منهم أحدا، ولا أم الصبى، ولا الصبى، ويترك هذا الدعى الجبار العنيد الفاجر الشديد الكافر الشيطان المريد على ما ذكروا.

وأما المنقول: فقد قال الله تعالى: {ثم أغرقنا الآخرين} وقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} ثم هذا الطول الذى ذكروه مخالف لما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن).

فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذى لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، أنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن، أى لم يزل الناس فى نقصان فى طولهم من آدم إلى يوم أخبره بذلك، وهلم جرا إلى يوم القيامة.

وهذا يقتضى أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه، فكيف يترك هذا ويذهل عنه ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها، فما ظنك بما هم يستقلون بنقله، أو يؤتمنون عليه، وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلاقًا من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء، والله أعلم.

ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه فى ولده وسؤاله له عن غرقه على وجه الاستعلام والاستكشاف، ووجه السؤال أنك وعدتنى بنجاة أهلى معى وهو منهم وقد غرق، فأجيب: بأنه ليس من أهلك، أى الذين وعدت بنجاتهم، أى أما قلنا لك: {وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم} فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأن سيغرق بكفره، ولهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان، ثم قال تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض وأمكن السعى فيها والاستقرار عليها أن يهبط من السفينة التى كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودى، وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور، وقد قدمنا ذكره عند خلق الجبال {بسلام منا وبركات} أى اهبط سالما مباركًا عليك، وعلى أمم ممن سيولد بعد، أى من أولادك، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلاً ولا عقبًا سوى نوح عليه السلام، قال تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بنى آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة وهم: (سام، وحام، ويافث).

أبو طالب الأنصاري
07 May 2005, 08:32 PM
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

جواد الفجر

حياك الله وبياك وجعل الجنة مثوانا ومثواك

جزاك الله خيرا على تلك القصص الموثقة والمؤصلة

أثابك الله خيرا وبارك فيك

أبوالزبير
07 May 2005, 09:44 PM
جواد الفجر



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاك الله خيراً أخي الحبيب

ولا حرمك أجر ما كتبت

وأحسن الله إليك

أبو فراس
08 May 2005, 10:16 AM
جواد الفجر

:wilted_ro
جزاك ربي الجنان وأسكنك الله الفردوس الأعلى

آمين

على هذه المشاركة الرائعة

أحسن الله إليك وبارك فيك

على هذا الجهد المبارك

سلمت

,,

أخوك المحب

أبو فراس